لا تستحق بيروت أن تصيبها هذه الكارثة. مدينة كانت تتلألأ ذات يوم عندما كان مصيرها في يد سياسيين يعرفون قيمتها، ويدركون أهمية المسؤولية الملقاة على عاتقهم لحماية هذه العاصمة وهذا البلد.
لا. لم تكن بيروت ولا لبنان هكذا. كان هناك رجال في مواقع الحكم يستحقون أن يكونوا حيث هم. كان هناك رجال لا يتزلفون لكل صاحب نفوذ أو حامل سلاح، ليوصلهم إلى حيث هم. كان هناك رجال يديرون الدولة في لبنان، من غير أن تكون «كفاءتهم» الوحيدة أنهم صنعوا حرباً أهلية كلفت أرواح ما لا يقل عن 150 ألف شخص وجرحت مئات الآلاف وخلّفت معاقين ومدناً وقرى مدمرة.
«أبطال» الحرب هؤلاء هم الذين يتقاسمون المسؤوليات في لبنان اليوم. أجهزوا على البلد في زمن الحرب وعادوا يتابعون المهمة في زمن السلم. يديرونه بعقلية زعماء العصابات والميليشيات، أي بتوزيع الغنائم، وبترقية المحسوبين والمنتفعين، وبنفخ الروح الطائفية والمذهبية كلما هبت ريح معاكسة؛ لأنهم لا يعيشون إلا على التربّح من هذه السموم التي أفسدت إمكانية قيام دولة يتساوى فيها المواطنون، ويتقدم فيها الموظف في الوظيفة العامة تبعاً لكفاءته، لا تبعاً لولائه لهذا الزعيم أو ذاك.
ليس انفجار المرفأ، رغم حجمه الكارثي، المصيبة الوحيدة التي حلت بلبنان. لقد استسهلت الدولة الاستهتار بإدارة أمورها إلى أن وصل الأمر إلى قرارها السياسي والعسكري، وعلاقاتها الخارجية. هنا أيضاً لعب التزلف والتكسب دورهما، وتحول الحزب الحاكم حالياً في لبنان إلى أداة في يد قوة مسلحة خارجة عن سلطة الدولة وعن قرارها، هي قوة «حزب الله»، وصار «التفاهم» الشهير بين هذا الحزب والحزب الحاكم بديلاً عن دستور الدولة وعن قوانينها.
ليست المسؤولية عن كارثة مرفأ بيروت مسؤولية مباشرة فقط. إنها عينة عما يحصل في كل أجهزة الدولة. تراكم إهمال وارتكابات لا تحصى، رشى وسمسرات، وغياب كامل للمحاسبة، وشلل لأجهزة الرقابة التي امتلأت بالمحسوبين والمتملقين. وقضاء مشلول بسبب تدخل السياسيين في أحكامه. إلى أين كان يمكن أن يصل كل هذا إلا إلى انهيار الدولة وإفلاسها وعجزها عن إدارة شؤونها؟
لهذا كان انفجار أطنان الأمونيوم في مرفأ بيروت هو الإعلان الدموي عن حجم هذا الإهمال والفشل.
مرت عشرة أيام على كارثة المرفأ ولا يزال ما يسمى دولة في لبنان يبحث عن المسؤول الذي ترك أطنان الأمونيوم ترتاح في أحد العنابر سبع سنوات.
وعدتنا حكومة حسان دياب قبل رحيلها أننا سنعرف ذلك المسؤول خلال خمسة أيام. وها نحن في اليوم العاشر بعد الكارثة ولا نتائج معلنة تقنع أهالي الضحايا بأن مسؤولاً ما سيحاسب.
دولة لا يعرف أحد من يديرها وكيف تتوزع الصلاحيات والمسؤوليات فيها. رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للقوات المسلحة، «الرئيس القوي» بتياره وبصهره، وبحليفه وصاحب الفضل في وصوله إلى حيث هو، تصله أخبار الأمونيوم مع تحذير من أن هذه الكمية «يمكن أن تفجر المدينة»، فلا يجد متسعاً من الوقت ليفعل شيئاً؛ لأن «التراتبية» تمنعه من التدخل في المرفأ.
الرئيس نفسه، المغرم باحترام التراتبيات، كلّفوه مرة مسؤولية رئاسة حكومة انتقالية لفترة مؤقتة، تكون مهمتها التحضير لانتخابات رئاسية. فهم ذلك التكليف على أنه اختيار له لمنصب الرئاسة. صار يتصرف بهذه الصفة، يحل المجلس النيابي. يأمر الجيش بقصف المناطق «المعادية». يشعل الحروب كيفما اتفق. وعندما أخرجه حلفاؤه الحاليون من قصر بعبدا، خرج مهزوماً يبحث عمن يوفر له سبيلاً إلى ملجأ.
الرئيس ميشال عون ليس طبعاً المسؤول الوحيد عن الكارثة التي حلت بلبنان وقتلت ما يقارب المائتين من شبابه، وجرحت الآلاف ودمرت منازل وهجّرت ما يزيد على 300 ألف من سكانها. لكنه رئيس الجمهورية الذي أقسم على صيانة البلد وحماية أهله، وفرضِ احترام القانون على الجميع. وعندما تقع جريمة من هذا النوع ويروح الرئيس يبحث عن كبش فداء، مرة من خلال المطالبة بأشرطة تظهر له «الصواريخ التي قصفت المرفأ»، ومرة أخرى من خلال التشكيك في التحقيق الدولي، بحجة أنه يريد «عدالة سريعة»، عندما يحصل كل ذلك يصبح من حق المواطن أن يسأل عن الغاية من وراء إضاعة الوقت في أسئلة عبثية، في حين المسؤولون عن هذا الإهمال، مباشرين أو غير مباشرين، معروفون، وكانوا يعرفون حجم الضرر الذي ستلحقه هذه المواد المدفونة تحت رعايتهم، ولم يفعلوا شيئاً.
سبب هذا الكلام أن الإهمال المتمادي وانعدام الحس بما تعنيه المسؤولية العامة فيما يسمى الدولة اللبنانية وإداراتها كان لا بد أن يوصل البلد إلى كارثة، إن لم يكن في مرفأ بيروت ففي أي مرفق أو مصلحة عامة أخرى. طبعاً في هذه الحالة كان حجم الضرر كبيراً لأن المواد التي تم تخزينها كانت من النوع الذي أدى انفجاره إلى كارثة.
لكن هذا الإهمال موزع على كل الوزارات والمؤسسات. بسببه حصل الانهيار المالي، نتيجة غياب الرقابة على الحركة المالية وعلى عمل المصارف. وبسببه تستمر أزمة الكهرباء التي ذهب نصف الديْن العام إلى الإنفاق عليها، من دون أن يعرف أحد مبرر صرف هذه الأموال على خدمة غير مؤمّنة. والأمر نفسه يقال عن الخدمات العامة الأخرى وعن البنية التحتية في بلد صارت تصنف خدماته في أدنى المستويات.
وبسبب السكوت المتمادي من قبل الفريق الحاكم عن دور «حزب الله» في أزمات المنطقة وانعكاس ذلك على مصالح لبنان السياسية والاقتصادية، يدفع البلد الثمن انهياراً اقتصادياً وعزلة خارجية، من غير أن يجرؤ أحد من المنتفعين من حماية الحزب لمواقعهم على رفع الصوت ضد هذه الازدواجية في القرارات الوطنية، التي لا مثيل لها في أي دولة مستقلة.
يفتح انفجار المرفأ الباب أمام جدل واسع في لبنان حول وسيلة الخروج من الأزمة الحالية ومعالجة أضرارها، والأهم طريقة تجنب كارثة أخرى مماثلة. لكن الباحثين عن الحلول هم الذين صنعوا الكوارث الحالية. ما يعني أن البلد لا يزال يدور في حلقة مفرغة، لينتهي الأمر من حيث بدأ، أي لينتهي بعودة المسؤولين أنفسهم إلى المناصب نفسها.
بكلمة بسيطة: لا أمل في أي حل مع هؤلاء.