انفجار ضخم هز العاصمة اللبنانية، يُقال: إنه ثاني أضخم انفجار في التاريخ الحديث، طال تأثيره كل بيوت بيروت، حتى وصلت أصداؤه إلى قبرص، خلّف وراءه نحو مئتي قتيل، وآلاف الجرحى، وعدداً غير معلوم من المفقودين، وخسائر مادية تقدر بمليارات الدولارات.. في التقارير الأولية أن سبب الانفجار 2700 طن من مادة «نيترات الأمونيوم»، كانت مخزنة في الميناء منذ العام 2014، وهي مادة شديدة الانفجار، وقد أصدرت اللجان الأمنية توضيحات وتحذيرات بمدى خطورتها، عبر رسائل عديدة وجهتها لكل المعنيين بالأمر.
انفجار بيروت، رغم أنه الأعنف، إلا أنه ليس الأول، ولم يكن برقاً في سماء صافية، وسواء كان حادثاً عرضياً، أو تخريباً متعمداً، أو قصفاً إسرائيلياً (وهي احتمالات واردة)، فإن الأهم من كل ذلك هو إدانة جريمة تخزين تلك المادة الخطرة بالقرب من المناطق السكنية، وعدم التصرف بها طوال تلك المدة، وإدانة منظومة الفساد التي أنتجت التفجير. والفساد هنا لا يقتصر على الترهل الإداري، أو تلكؤ موظفين (صغار أم كبار)، الفساد قائم أصلاً بسبب منظومة المحاصصة الطائفية التي تحكم لبنان منذ استقلاله.
2700 طن من نيترات الأمونيوم، تعادل قنبلة ذرية مصغرة، مخزنة وسط مدينة مكتظة بالسكان، ولسنوات عديدة، إلى أن جاءت لحظة الصفر، وانفجرت. وقد كان انفجارها بهذه القوة غير المسبوقة لكي توقظنا، لعلنا نكتشف مئات القنابل الموقوتة المخبأة بيننا، وهي جاهزة للانفجار في أي لحظه، موجودة في بيوتنا، ومؤسساتنا، وشوارعنا، وثقافتنا.. لا نعلم عنها شيئاً، أو نعلم، ولا نفعل شيئاً سوى انتظار لحظة التفجير.
وبالمناسبة، القنابل القادمة التي ستنفجر في وجوهنا ليست بالضرورة مكونة من نيترات الأمونيوم أو البوتاسيوم، أو من T.N.T، تلك القنابل تتخذ أشكالاً وصيغاً متعددة: ممارسات سلبية، تخلفاً قيمياً، غياب القانون، استهتاراً بحياة الناس، تعصباً، تطرفاً، طائفية، عشائرية، فساداً، أنانية.. وهذه أشد خطراً من القنابل التقليدية، وانفجارها أطول مدى وأوسع انتشاراً، قد يكون فوضى اجتماعية عارمة، حرباً أهلية، انهياراً اقتصادياً، فشل مؤسسات الدولة، شلل المجتمع بأسره.. أو في أحسن الأحوال البقاء في مكانتنا المتخلفة في ذيل الأمم.
هل تذكرون حريق النصيرات في غزة في شباط الماضي، ومن قبله انفجار جباليا أثناء الاستعراض العسكري العام 2005، قبله وبعده عشرات الحوادث التي أودت بحياة أبرياء، وكان يمكن تجنبها. كم شاباً قتل بسببها ثم قلنا: إنه «استشهد» في عمليات جهادية! كم حرباً عبثية خضناها بسبب المغامرات المتهورة والحسابات الخاطئة والأولويات الحزبية والأجندات الإقليمية؟؟ آلاف الشبان الذين قضوا نحبهم، والذين هاجروا وخسرناهم، ومئات آلاف غيرهم ممن ينتظرهم مستقبل غامض وموحش.. هل كان ضرورياً أن نخسرهم في يوم واحد حتى نستفيق على حجم الكارثة أم أنّ خسارتهم بالتدريج وعلى مدى سنوات لا تعني لنا شيئاً؟! هل انتبهنا لمنظومة الفساد التي ما زالت تنتج كل هذا الخراب أم أنّ الفساد هو فقط سرقة بعض المسؤولين لأموال الشعب؟ من الأخطر؟
لنترك غزة قليلاً، فالقطاع بحد ذاته سيغدو مكاناً غير صالح للعيش الآدمي بعد سنوات ليست بعيدة، لنتطلع إلى القنابل الموقوتة في الضفة الغربية.. وهي كثيرة، حالياً أخطرها فوضى السلاح، وهذا السلاح مكرس الآن للاستعراضات الفارغة، أو لارتكاب جرائم القتل والثأر من حين لآخر، ونخشى أن يتطور الأمر إلى  صراع شوارع، خاصة في ظل انغلاق الأفق السياسي، والأزمة الاقتصادية.. هذا كله في ظل تراجع دور السلطة عن القيام بواجباتها، وعدم وجود انتخابات رئاسية أو تشريعية، أو تعيين نائب للرئيس، وتراجع دور الفصائل الوطنية عن دورها في احتواء الشباب وتوجيههم، وتراجع دور القضاء لصالح منظومة العشائر والعطوات، مع ثقافة مجتمعية متخلفة تعلي من شأن العنف والقوة والذكورة والتنمر والاستقواء على الضعيف، خاصة النساء.
لحسن الحظ تخلو فلسطين من الطائفية (أو تكاد)، وهذا ليس بسبب تطور الوعي، أو الاستفادة من الدروس القاسية لدول الجوار، بل بسبب عدم وجود طوائف، ولكن لدينا ما يوازي الطائفية خطورة، إنها العشائرية، والتعصب القبلي، والمناطقي، وهي منظومة مجتمعية متخلفة تنتمي لعصر ما قبل الدولة، وهناك تنظيمات سياسية وقوى اقتصادية محلية ترعى وتنمي الفكر العشائري لخدمة مصالحها وأجنداتها.
ومن القنابل الموقوتة أيضاً جيل كامل من الشبان، يتربص بهم شبح البطالة، وما يترافق معه من يأس، وحيرة، وتخبط، وكبت، وضغوطات اجتماعية، وأزمات نفسية.. وإذا لم نسارع بتبني برامج وطنية شاملة تستوعب هؤلاء الشبان، سيكون انفجارهم أخطر من انفجار بيروت.
هل تذكرون حريق مصنع الولاعات في الخليل؟ هل لدينا إحصاءات بعدد الحوادث والكوارث التي كان يمكن تفاديها؟ كم جريمة قتل في السنة؟ هل عالجنا الموضوع قانونياً؟ كم لجنة تحقيق تم تكليفها؟ وماذا كانت الحصيلة؟ هل قمنا بمراجعة نقدية لمنظومة قيمنا المتخلفة وأفكارنا البائدة وممارساتنا الأنانية؟ هل تمت محاسبة فاسد واحد؟ هل اعترف مسؤول ما بتقصيره؟ هل لدينا قاعدة بيانات في كل مجال؟ هل لدينا خطط وطنية مدروسة بعناية بناء على تقدير موقف وتخطيط سليم وبأسلوب ومنهجية علمية أم كل ما لدينا مبادرات فردية واجتهادات؟
هل انتبه أحد لمشكلة مؤجلة ومعقدة اسمها «كفر عقب» و»أزمة قلنديا» مناطق C البعيدة عن كل رقابة؟ مهربو كل أنواع البضائع الفاسدة؟ تفشي وانتشار المخدرات؟ السيارات المسروقة والمشطوبة؟ عدد غير معلوم من  المرتبطين بالاحتلال، وأضعافهم ممن يخدمون الاحتلال بغبائهم، طبقة من الأثرياء المنسلخين عن قضايا وهموم الوطن.. هذه كلها قنابل موقوتة مؤجلة إلى حين.
الفساد، عدم المهنية، الإهمال، التقاعس عن أداء الواجب، التخبط، العشوائية، الارتجال، غياب التخطيط الإستراتيجي، ضعف القانون.. كل هذه قنابل موقوتة أخطر من نيترات الأمونيوم.
القبلية، التعصب الحزبي، التزمت الديني، التطرف الفكري، الطائفية.. أخطر من السلاح الكيماوي، والجرثومي، بل هي قنابل أشد انفجاراً من النووي.
هل يكفي دوي تفجيرات بيروت لإيقاظنا، أم نحتاج لتفجير أشد؟ هل يجب انتظار تراكم المشاكل والأزمات حتى تتحول إلى مواد شديدة الانفجار؟
مجرد صرخة استغاثة قبل فوات الأوان.