كتب رئيس التحرير: كانت الأيام الماضية حافلة في فلسطين، ومليئة بتطورات خطيرة، أخطر ألف مرة من فيروس كورونا وسائر الأمراض، فما حدث لا يؤثر على الأجساد، بل يصل إلى النسيج الاجتماعي، وعصب الشعب الفلسطيني.

ربما نكاد نجزم أننا الشعب الوحيد على وجه هذه الأرض الذين لا مجلس تشريعياً لهم، ما اضطر الفلسطينيين إلى البحث عن منابر مختلفة لإيصال صوتهم، مع اختفاء نواب التشريعي، أو إقالتهم، أو حلّهم.

وجد الفلسطينيون في الشوارع ومواقع التواصل الاجتماعي ضالتهم المنشودة، فعبروا خلالها عن آمالهم وآلامهم ومخاوفهم ومطالبهم، إلا أن تعامل الحكومة الحالية والسابقة كان صادماً.

(1)
قبل أيام قمع الأمن مجموعة صغيرة من الحراكيين تطالب بوقف تجاوزات في الترقيات غير القانونية ووقف أشكال الفساد بالطرق السلمية ومن خلال اعتصام لساعات على دوار المنارة في رام الله.

لم يخرج من خرج من المواطنين بطَراً أو تآمراً على القضية والشعب، بل خوفاً على ما تبقى من قضية وأرض، كذلك فإننا نتوقع ونؤمن أن رجال الأمن الذين قمعوا الحراكيين لم يقمعوهم بطراً أو خيانة أو تآمراً، وإنما لأنهم يخافون على ما تبقى من أرض وقضية. لكن لماذا تعارضت الكلمة الواحدة؟ ولماذا قطعت اليد نفسها؟!

 الواجب على السلطة الوطنية تشجيع هؤلاء الشباب لطرح آرائهم والإجابة عليها وليس اعتقالهم، آلا يكفي حجم البطالة في صفوفهم وذهابها لأصحاب النفوذ خلال السنوات الماضية دون احترام للقانون الأساسي الذي ينص على ان الوظائف العامة حق لكل فلسطيني، ألا يكفي الفقر، ألا يكفي ممارسات الاحتلال وحصاره؟

العجيب أن رئيس الوزراء بنفسه أعلن عن تحويل ملفات عديدة لهيئة مكافحة الفساد، ما يعني اعترافه الكامل بوجود فساد، وهو أمر موجود في كل الدول بنسب متفاوتة، لكن بما أن الفساد موجود، وبما أن الحكومة ماضية في معالجته، لماذا يُقال لرافضي الفساد (اخرسوا)؟!

الذين تم اعتقالهم وأفرج عنهم بعد عشرة ايام لم يتجاوزوا القانون، لم يجرحوا بأحد، بل عبروا عن رأيهم، ولا مبرر لاعتقالهم، حيث أجج اعتقالهم المشاعر الفلسطينية المحتقنة اصلاً على التجاوزات الكبيرة منذ سنوات ضد الحكومة، ناهيك عن استياء الجهات الدولية و مؤسسات المجتمع المدني والنقابات والتي أصدرت بمعظمها بيانات شجبت بها تصرفات الحكومة.

لقد خسرت الحكومة من اعتقال الحراكيين الكثير، ولم تكسب شيئاً.

في نفس السياق، هناك همسة في أذن الحراكيين، فاسمعوها جيداً: لقد استطعتهم سابقاً جمع الحشود والآلاف المؤلفة ضد قانون الضمان الإجتماعي ولكنكم فشلتم في جمع المئات لمطلب أكثر شعبوية من قانون الضمان وكان تحرككم ضعيفا وباهتا وارتجالياً، لذا فإن عليكم إعادة النظر في آلية وطريقة التعبير عن هذه الجزئية، قد تكونا أخطأتم بالتوقيت حيث يخشى المواطن أي تجمع بسبب فايروس كورونا او ربما تكونا قد أخطأتم بالأسلوب أو بالأمرين معاً.

الفيلسوف جون ستيوارت أول من نادى بحرية التعبير عن الرأي مهما كان هذا الرأي، فقد قال: (إذا كان كل البشر يمتلكون رأياً واحداً، وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأياً مخالفاً فإنّ إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له الظروف لذلك).

(2)
يُدرك شعبنا أن الحكومة الحالية ولدت في وقت عصيب جداً، وشهدت العديد من الأزمات الجسام التي تطيح كل واحدة منها بحكومات دول. توالت الأزمات على هذه الحكومة، بدءاً من الأزمة الاقتصادية ثم السياسية ثم الصحية ممثلة بفيروس كورونا، والتي جاءت كأزمة مركبة تمخض عنها آلاف العاطلين عن العمل وضربات اقتصادية ومالية قوية أدت إلى إغلاق مئات المنشآت الصغيرة وتضرر الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام.

حذرنا في مقالات سابقة من ارتداد الأزمة الاقتصادية التي خلفتها جائحة كورونا، وقلنا إن الشعب مضغوط جداً، وأي استفزاز مقصود أو غير مقصود ربما يؤدي إلى إشعال فتيل لا يُعرف كيف وأين ومتى ينتهي.

الأزمة الاقتصادية التي يعيشها الفلسطينيون نزعت الأمل من قلوبهم وزادت نسبة الفقر والبطالة، وربما يمكننا القول إن هذه الأزمة خلفت أزمة أسرية واجتماعية تمثلت في زيادة العنف، فقد سمعنا خلال هذا العام أخ يقتل أخته او زوج يعتدي على زوجته او عائلة تشتبك مع عائلة اخرى واشتباك تجار مع أجهزة الامن او مظاهر فلتان في المدينة او المخيم او القرية، أدت في بعضها لسقوط قتلى.

ظاهرة انتشار السلاح وإطلاق الرصاص في مناسبة أو غير مناسبة واجبة المتابعة من قبل الأجهزة الأمنية ومحاربتها بلا هوادة، لكن الآن في ظل أزمة كورونا وما يعيشه الناس من أزمات تحتم على الحكومة توفير برامج إغاثة وحماية لتلك العائلات بل والتعامل بمنتهى الهدوء والاستيعاب من قبل الأجهزة الأمنية وممثلي الحكومة وامتصاص نقمة الشارع وغضبه ومعالجة ظروفه قدر الإمكان وتجاوز بعض المخالفات للأفراد سواء بفتح محل تجاري، أو أي محاولة لتحصيل قوت يومه.

على الجهات الحكومية الحوار مع هؤلاء للتعرف على حقيقة ظروفهم التي جعلتهم يرتكبون تلك المخالفات، كما أننا نؤكد على منع التطاول على القانون، فإننا نقول إن واجب حتى الجهات القضائية تجاوز مخالفات قانونية بسبب حالة الطوارىء التي نعيشها، مثال ذلك تعثر البعض عن سداد شيكاته فهل يعقل اعتقاله في هذه الظروف الطارئة، حتى لا تكون الحكومة كمن "ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له .. إياك إياك أن تبتلَّ بالماءِ".

على التوجيه السياسي والوطني ممارسة دور أكبر في تثقيف وتوجيه وصقل العساكر، وعلى قادة الأجهزة ووزارة الداخلية تشديد تعليمات إطلاق النار حتى ولو في الهواء، فشعبنا لا يحتمل بعد كل هذه المآسي والصعاب والأزمات أن يرى ابن بلده يرفع السلاح في وجهه أو يطلق النار عليه.

ما حدث في بلاطة البلد قبل أيام كارثة أمنية واجتماعية كبيرة، فكيف لرجل الأمن الفلسطيني ان يطلق الرصاص الحي حتى ولو على الأرض أثناء التعامل مع المواطنين؟ 
هناك خلل كبير في نهج قوى الأمن ومن يتحمل المسؤولية هم قادة الأمن ورأس الهرم بالمؤسسة أولاً وصولاً لرجل الأمن الذي أطلق النار، ويجب ان يكون هنا محاسبة من أعلى الهرم حتى أصغر عسكري لمنع تكرار ماحدث.

إن عدم استخلاص الدروس والعبر مما جرى سيؤدي إلى استمرار هذه التجاوزات الخطيرة وسنراها بمحافظات أخرى، لكن ربما لا تنتهي كما انتهت في نابلس!

على الأجهزة الأمنية ضبط النفس، والعد للمليون وليس للعشرة قبل وضع الرصاصة في بيت النار، ولاحظوا كيف تعاملت الأجهزة الأمنية الامريكية مع السود الذين خرجوا للاحتجاج على مقتل جورج فلويد، فرغم أن المظاهرات شهدت أعمال عنف وسلب وحرق، إلا أن أجهزة الأمن ظلت تمتص غضبهم وتتعامل معهم بهدوء، بل واحترموا مطالبهم وحكموا على الشرطي القاتل بالسجن لمدة أربعين عاماً حتى انتهت الأحداث وزالت حالة الاحتقان.