في المؤسسة الإعلامية التي أعمل فيها منذ عشرِ سنوات، لديَّ صديقٌ غير عاديّْ، هو سائقٌ غير قانوني، مهرب عمال، لص سيارات، سجين جنائي سابق. يعمل هذا الصديق مراسلاً وصانع قهوة، عيونه من حكايات، ومن أفكار متجدِّدة لسرقة الأشياء. في الأربعينيّات من عمره، وجهٌ نصف محروق، وأيد مشقّقة، عرج خفيف، وحذر دائم.
صديقي هذا يسرقني كلّ يوم.
أطلب منه أن يحضر لي صندوق زجاجات ماء معدنيّ، أعطيه خمسة عشر شيكلاً ليشتريَ لي بالباقي فستقاً وترمساً، يأتيني بالصندوق وهو يتأفف:
- يا الله يا أستاذ سقطت مني الخمسة شواكل انا أعتذر جداً.
أزعم أني أصدقه طبعاً، وفي مرات أخرى:
-والله يا أستاذ جعت واشتريت بالخمس شواكل سندويشة فلافل... سامحني.
وهكذا يسرق مني اسحٰق مراسل المؤسسة الإعلامية خمس شواكل كلما ذهب ليشتري لي غرضاً ما.
أبتسم انا أمام سرقاته وأسامحه لأنني أعرف كم يحمل في داخله قلب انسان جميل. كم هو مشروع انسان لطيف لولا ظروفه التي لا أعرفها ولكني أخمنها.
يذهب اسحٰق إلى المشفى ليعالج ركبته من التهاب. وهناك يسرق الصابون والأقلام والشراشف والمعقمات. لكنه ينهار تحت يدِ طفلٍ قُطعت إصبع يده ويغضب بصوتٍ عالٍ صارخاً في وجه الأطباء الكسالى:
-الولد بنزف يا مجرمين.
ثم يعود إلى المؤسسة ليبكي أمامي:
-والله كأنهم قطعوا شريان قلبي يا أستاذ، مسكين الطفل.. شفت الرعب في عينيه وفي عينين امه.
وفي مرات كثيره يخرج اسحٰق من المؤسسة مسرعاً دون أن يأخذ إذني ويعود في آخر الدوام.
-معلش يا أستاذ كان في مشكلة عائلية.
وأرى التعب الحقيقي في عينيه.
-احكيلي يا اسحٰق شو في؟
-أبوي يا أستاذ عمره تسعين سنة، بعاني من زهايمر كامل، بهرب من البيت كل يوم بعد يوم بروح لنابلس وبضطر أروح لنابلس عشان أجيبه...
-ولماذا نابلس يا اسحٰق؟
-أحبَ هناك بنتاً في الثلاثينيات من القرن الماضي، كان جدي -أبوه- تاجر مواشٍ وكانت بنت صديقه البدوي تاجر المواشي جميلة وشهية لكنّ القدر تدخل وأمر سيارةً لتدعسها وتحطم عظمها في الشارع، توقف جدي عن تجارته وعاد أبي الى رام الله لتبقى ذكريات البنت البدوية في قلبه حتى وهو يفقد ذاكرته.
أتاني اسحٰق أمس، أعطاني قهوتي وجلس..
-أستاذ بكرة عيد ميلادي نفسي حدا يهديني وردة.
في المساء كانت هناك باقة ورد تجلس على عتبة بيته، صُعق اسحٰق..
-أستاذ مبارح حدا حط ورد على باب بيتي.
-روعة يا اسحٰق روعة.. تتوقع مَن صاحب الباقة؟
-مش عارف، يا ريت أعرف!
لم يعرف اسحٰق حتى اللحظة أن الباقة مني، وأظنه لن يعرف.
قلت لاسحٰق :
-سأكتب عنك مقالة بعنوان "لي صديق من العالم السفلي" هل لديك اعتراض؟
-طبعاً لدي يا أستاذ طبعاً لدي.. شو يعني عالم سفلي؟
-يعني عالم اللصوص والمجرمين وقطاع الطرق وتجار المخدرات.
-لا يا أستاذ اوعى اوعى تكتب اوعى، ثم يتراجع بسرعة والا أقلك اكتب أستاذ لأنه كل أصحابي أُميين بيعرفوش يقرؤوا ما حدا رح يعرف.
-شكراً عزيزي اسحٰق لأنك أعطيتني حكايتك وتفاصيل حياتك، أحتاجها جداً.
-ولماذا تحتاجها يا أستاذ؟
-حتى أكتب مقالة عنك في زاويتي بـ "الأيام" وأحصل مقابلها على مئة شيكل.
-ميت شيكل؟ تحصل مقابل حكايتي على ميت شيكل ؟
-طبعاً.
-هل لي من حصة في هذه الميت شيكل يا أستاذ طالما انها حكايتي؟
-نعم يا صديقي .. إليك عشرة شواكل.
طار اسحٰق من الفرح وصرخ في وجهي مبتهجاً:
-خذ كل حكاياتي وأعطني ثمنها يا أستاذ أرجوك.
-أنت الآن تتاجر بحكاياتك يا اسحٰق...انتبه!
-وأنت أيضا تتاجر بحكايات الناس يا أستاذ... انتبه.
-صعقت من إجابة اسحٰق وسكت سكوتاً طويلا...
سيأتي اسحٰق غداً.. يعطيني القهوة ويطلب مني أن أقرأ له المقالة سيبتسم ويمد يده لأعطيه العشرة شواكل.
ستكون صفقة رائعة... شخص يبيع حكايته وكاتب يشتريها.