قيل وكُتب الكثير حول «صفقة القرن»: أنها تتعامل بتعالٍ مع الفلسطينيين، وأنها مخالفة للقانون الدولي، وأنها تمنح التيار اليميني الإسرائيلي المتشدد كل ما كان يحلم به، إلى جانب أن ما تقدمه من حزمة اقتصادية يعد بمثابة رشوة تستخدم أموال الغير لعقد صفقة مجحفة في حق الفلسطينيين، إلخ.
وعلى عكس بعض التصريحات السلبية التي تم إطلاقها مؤخراً، فإن الفلسطينيين تصرفوا بوجه عام بعقلانية في ظل أصعب الظروف، وهذا لا يعني أنهم لم يقترفوا أخطاء في الماضي، فجَلَّ من لا يخطئ، لكن من المؤكد أنهم كانوا دوماً في وضع لا يُحسدون عليه ولا أتخيل أن هناك مَن يقبل تبادل الموقع معهم.
ويبدو أن واضعي «الصفقة» ينظرون إلى الفلسطينيين على أنهم أقرب إلى مستأجر يعيش في بناية متداعية تصادَف وجودها في موقع متميز مؤهَّلة للتطوير العقاري رفيع المستوى. إلا أن الواضح أنه يغيب عن هؤلاء أن الفلسطيني في الواقع يملك الأرض والعقار المبنيّ عليها ولا ينوي الرحيل عنها.
وأي شخص عاش في نيويورك يعرف كيف تُضطر سلطات المدينة وأقوى الشركات العقارية إلى إيجاد سبل قانونية للتعامل مع هذا النوع من أصحاب الأراضي المتشبثين بحقوقهم.
التساؤل الأهم الآن هو: كيف يمكن التعامل مع «صفقة القرن» مع الأخذ في الاعتبار حقائق عالمنا اليوم، بما في ذلك توازن القوى السائد.
فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تبقى القوة العظمى الوحيدة، فعليها أن تواجه حقائق معينة لا يمكن تجاهلها.
أولًا: في ضوء تعارض «الصفقة» بشكل واضح مع القانون والشرعية الدوليين، فإنه من الصعب على أي إدارة أميركية مستقبلية أن تتمسك بها، فهناك معارضة واضحة بين الأطراف المختلفة داخل الولايات المتحدة، تحديداً الكونغرس، وكذلك معظم وسائل الإعلام، ومراكز الفكر بل حتى داخل المجتمع اليهودي نفسه. جدير بالذكر أن الكونغرس أصدر القرار رقم 326 في 6 ديسمبر (كانون الأول) 2019 بغالبية 226 صوتاً والذي يوضح أن الكونغرس يعارض أي إجراءات من جانب البيت الأبيض للتشجيع على ضمٍّ أحادي الجانب للضفة الغربية أو أي خطوات أخرى تقوّض إمكانية حل الدولتين، أعقبه خطاب في نفس الاتجاه بتاريخ 7 فبراير (شباط) وقّع عليه 106 أعضاء بالكونغرس، وهو الأمر الذي يدل عن وجود كتلة حرجة بين صناع الرأي الأميركيين يتخذون موقفاً ضد «الصفقة» ويعارضون أي إجراء أحادي الجانب من جهة إسرائيل لضم أراضٍ فلسطينية، ويؤيدون حل الدولتين عبر التفاوض. ثانياً: لا يوجد سوى عدد قليل من حلفاء الولايات المتحدة على استعداد لمساندتها لتنفيذ «الصفقة». ثالثاً: حتى داخل إسرائيل فإن «الصفقة» محل خلاف بين القوى السياسية المختلفة.
وعليه، فإن التحدي الملحّ الذي يواجه الفلسطينيين يتمثل في العمل على الحيلولة دون إقدام أي حكومة إسرائيلية على إجراء أحادي الجانب نحو تنفيذ «الصفقة»، على الأقل حتى الانتخابات الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم. وحتى الآن يبدو أن الإدارة الأميركية نجحت في إقناع نتنياهو بعدم الإقدام على ذلك قبل الانتخابات الإسرائيلية المقررة في مارس (آذار) المقبل. ولكل حادث حديث بعد الانتخابات.
ولتحقيق هذه النتيجة فمن الأهمية وضع عدد من الأمور في الاعتبار. أولاً: الانتخابات الإسرائيلية المقررة في مارس وما يمكن أن ينتج عنها من تشكيل المعارضة الحالية للحكومة القادمة. ثانياً: بالنظر إلى أن توقيت الإعلان عن «الصفقة» مرتبط باعتبارات انتخابية داخل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل هدفها تعزيز فرص إعادة انتخاب كل من الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، فبمجرد إعادة انتخاب الرئيس ترمب في نوفمبر القادم وهو الاحتمال الأرجح حتى الآن، وأخذاً في الاعتبار أسلوبه في الإدارة المبنيّ على «تقديم شيء مقابل شيء» ستكون «الصفقة» قد أدت الغرض المطلوب منها، وبالتالي لن يكون هناك حاجة أو اهتمام لمتابعة تنفيذها.
في هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن الرئيس ترمب تباعد عن رئيس الوزراء نتنياهو عندما أخفق الأخير مرتين في انتخابات أبريل (نيسان) وسبتمبر (أيلول) الماضيين في ضمان أغلبية محافِظة تُمكّنه من تشكيل حكومة مستقرة، مؤكداً أن علاقة الولايات المتحدة هي مع إسرائيل وليست مع شخص معين.
يقف الفلسطينيون في المرحلة الراهنة عند مفترق طرق بالغ الأهمية. فإما أن يتمكنوا من الاستمرار في العمل من أجل بناء دولة مستقلة قابلة للحياة ذات سيادة وعاصمتها القدس الشرقية، وإما أن يتجهوا نحو إقامة دولة واحدة على أرض فلسطين الانتداب التي سيشكّلون فيها الأغلبية في المستقبل المنظور.
وسيتطلب ذلك اتخاذ قرارات مصيرية، بعضها لم يسبق التفكير فيه، منها اتباع نهج جديد إزاء العلاقات بين الفلسطينيين أنفسهم بمن في ذلك الفلسطينيون داخل إسرائيل.
لقد اتخذ الرئيس محمود عباس حتى الآن القرارات الصائبة، خصوصاً بالتوجه إلى الأمم المتحدة، وإلى مؤسسات ومنتديات دولية أخرى، لتأكيد استمرار التزام المجتمع الدولي بالشرعية الدولية الذي شارك في صياغتها على مدى العقود الماضية وفي نفس الوقت التأكيد أن «الصفقة» تتعارض مع تلك الشرعية، وهي معادلة دقيقة للغاية يجب أن تبقى نُصب أعين القيادة الفلسطينية. إضافةً إلى ذلك، فإن تواصل الرئيس عباس مع العناصر المعارضة لـ«الصفقة» داخل إسرائيل وظهوره مع رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت، خطوة إيجابية يجب البناء عليها.
وبالخلاصة فعلى القيادة الفلسطينية الاستمرار في تأكيد موقفها بالالتزام بعملية تفاوض حقيقية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية إلى جوار إسرائيل، مع التأكيد أنه من أجل الإبقاء على هذا الخيار متاحاً، سيتعين استمرار دعم المجتمع الدولي لهذا الخيار في المحافل الدولية كافة والتصدي لأي إجراء أحادي تتخذه إسرائيل... أما إذا أقدمت إسرائيل على اتخاذ إجراء من جانب واحد لتنفيذ «الصفقة» في تحدٍّ للشرعية الدولية، بل وحتى مواقف وقرارات غالبية الكونغرس الأميركي، فإن الفلسطينيين لن يكون أمامهم حينها سوى خيار العمل من أجل قيام «الدولة الواحدة». وفي نهاية الأمر، فإن الخيار الذي سيتخذه الفلسطينيون يعتمد إلى حد كبير على المواقف التي سيتخذها المجتمع الدولي، خصوصاً الإدارة الأميركية. وهنا لا يمكن التقليل من أهمية دور الدول العربية في تشكيل المواقف الدولية الداعمة للموقف الفلسطيني.
في تلك الأثناء، سيتعين على الفلسطينيين العمل على ضمان الاحتفاظ بالدعم الدولي لهم وتحقيق تناغم داخلي في صفوفهم.