يتسبّب إصرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب على إصدار عفو رئاسي عن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، في سياق المحاكمة الجارية له بشبهات جنائية، بطرح تساؤل عمّا إذا كان مثل هذا العفو سيؤدّي إلى ظهور "نتنياهو جديد" غير الذي عهده الجميع. ولكن الوقائع المتراكمة تفيد بأن نتنياهو لا يزال هو نفسه، وثمّة أيضا من يؤكّد أنه سيبقى كذلك. ويذهب بعضهم، ومنهم رئيس تحرير صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، إلى حدّ القول إنّ من شأن إصدار عفو من الرئيس فقط أن يزيل ما تبقّى من الضوابط والتوازنات، وأن يزيد من سلطة رئيس الحكومة، وأن يعزّز حكم الفرد المستبدّ. وما تجدر الإشارة إليه أن نتنياهو لم يخفّف من غلواء هجومه على سيادة القانون والإعلام وعلى المعارضين، بل أضاف إليه ما يوصف بأنه عملية تطهير سياسية في الجيش والمؤسّسة الأمنية.

ولا يعدّ هذا الاجتهاد بخصوص نتنياهو وليد اللحظة الراهنة بتأثير المحاكمة أو تحت وطأة الحرب الممتدّة على قطاع غزّة والضفة الغربية، بل كان دأب بعض الأكاديميين والمحلّلين الإسرائيليين منذ أعوام. وإذا شئنا التحديد أكثر، ينبغي أن نعيد التذكير بما كتبه مثلاً المؤرّخ الإسرائيلي زئيف شطرنهيل (1935-2020)، المتخصّص في موضوع الفاشية، منذ أكثر من عشرة أعوام، سيّما، أولا، أن إسرائيل لم تعد "الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط" كما تدّعي، وبالذات بعد الحرب العدوانية على غزّة عام 2014. وفي قراءته، ما ميّز تلك الحرب على وجه التخصيص هو سلوك المثقّفين، الذين اتجهوا نحو الالتزام المطلق بالخطّ الرسمي وسير معظمهم مع القطيع. كما أن إفلاس الإعلام الجماهيري في تلك الحرب كان مطلقا. كذلك، فإنّ الجامعات والمؤسّسة الأكاديمية استقامت وفقا للحكم والأغلبية الصارخة في الشارع؛ ومن دون أن يطلب منها أحد، بدأت مؤسّسات جامعية تطالب الطواقم الأكاديمية بأن تكبح نفسها في انتقاداتها.

ثانيا، أن العقلية التي يمثّلها نتنياهو فاشية، وتقف في صلبها الحاجة إلى وجود عدوّ داخلي فضلا عن العدوّ الخارجي. وما أثبته نتنياهو على مدار أعوام حكمه الطويلة أنه من دون كراهية العرب، ومن دون التشهير بما يوصف بـ"اليسار" بأنه خائن، ومن دون هجوم شرس على حرّية التعبير والانتقاد، فإن قوميته المتطرّفة اليهودية لن تكون كاملة. وفي أكثر من مناسبة كشف سلوك نتنياهو أن الإعلام الحرّ، الذي يكشف فضائحه كل يوم، هو بمثابة العدوّ الفوري. وثالثا (ولعلّه الأكثر أهمية)، أنه من الخطأ التفكير في أن ما يدفع نتنياهو إلى هذا السلوك كلّه، هو الخوف من أن يودع السجن عند انتهاء محاكمته؛ فلو كان هذا هدفه الوحيد لكان استطاع التوصّل إلى صفقة ادّعاء من أجل إلغاء لوائح الاتهام مقابل اعتزال الحياة السياسية. لكن نتنياهو متعطّش للقوة ويعبدها. لذلك هو يشمئز من أيّ مظهر من مظاهر الديمقراطية الليبرالية التي تقوم على تقييد السلطة التنفيذية، ويمجّد ما يسمّى "مبدأ الحوكمة"، وكأنّ مهمة الدولة الرئيسة هي الحكم بأي ثمن ومهما يحدث.

وفي حين أن من بين السلطات الثلاث التي تتكوّن منها الدولة (التشريعية والقضائية والتنفيذية) يشكّل القانون مهمّة السلطتَيْن الأولى والثانية، فليس الأمر صدفةً أو عبثا؛ إذ إن نظام القانون هو الذي ينظّم إدارة الدولة، وهو الذي يسبغ الشرعية على أعمالها ونشاطاتها. ومثلما سبق لأحد كبار أساتذة العلوم السياسية في إسرائيل (البروفيسور يغئال عيلام) أن أشار، فإن مصدر كلمة "شرعية" هو كلمة لاتينية تعني "قانون". في المقابل، فإن أولئك الذين يتحدّثون باسم "مبدأ الحوكمة" يدّعون عمليا أن السلطتَيْن اللتَيْن تحفظان نظام القانون يجب أن تكونا في خدمة السلطة الثالثة، التنفيذية؛ وهو مبدأ مشوّه، يتكئ عليه أيُّ نظام دكتاتوري.