
احتجاجات أوروبا ليست مجرد رد فعل على مشاهد القصف أو الأخبار عن غزة بل هي لحظة انكشاف الحقيقة لحظة يرى فيها الناس بأعينهم أن ما عرفوه طوال عقود كان رواية مزورة، محرفة، مضللة و حين خرجت صور الأطفال تحت الأنقاض، المستشفيات المدمرة والخيام الغارقة بالمطر في غزة عندها فُتحت ملفات اسرائيل منذ العام 1948 و ظهرت عشرات المجازر و القرى المدمرة و اللاجئين حينها لم تعد الرواية الإسرائيلية وحدها في أزمة بل انهارت معها الرواية الأوروبية والأمريكية عن العدالة والقانون والديمقراطية وكشف ذلك عن خداع الدول لمواطنيها و تواطؤ إعلامي طويل وتضليل ممنهج أبقى شعوبها في ظلام شبه كامل عن واقع فلسطين.
لماذا نحتج يوميا في أوروبا؟ سؤال يتردد علينا قالها احد المنظمين و كانت إجابته : حتى ينتهي الاحتلال ويتوقف قتل الأطفال والمدنيين في غزة والضفة وتتوقف عربدات المستوطنين وأعمال الاستيطان وحتى يتوقف التساؤل الذي ظلّ يتردد من الأوروبيين حتى اليوم : ماذا يحدث في فلسطين؟ إعلامهم لم يكن مجرد ناقل بل مضلل يغيّب الحقيقة عنهم ويعيد إنتاج الرواية المزورة. الاحتجاج لم يعد مجرد غضب بل فعل وعي ثوري والشارع هو المكان الوحيد الذي كسّر هذه الرواية وأجبر الناس على السؤال والقراءة والبحث خارج الإعلام الرسمي الذي لم يفشل بل تواطأ و ضلّل ، ما بدأ بمئات المحتجين أصبح اليوم احتجاجات بالملايين وأصبح السؤال يصدح في كل عاصمة أوروبية: لماذا ما أراه في الشارع و وسائل التواصل الاجتماعي يختلف عن ما أراه على الشاشات الرسمية للحكومات الاوروبية ؟ ولماذا يُقمع هذا الصوت المعبر عن القيم الديمقراطية التي تربينا عليها ؟ جزء كبير من الغضب الأوروبي ينبع من إدراكهم أن حكوماتهم خدعتهم وزوّرت الرواية وأن الحقيقة لم تُعرض لهم بالكامل منذ بداية المشروع الصهيوني .
الانحياز الأوروبي لمشروع الصهاينه له جذور تاريخية عميقة تكشف عن صفقات سياسية مروّجة منذ أكثر من قرن في خضم الحرب العالمية الأولى وفي صيف 1916 حين كانت بريطانيا تدرس قبول عرض سلام من ألمانيا اقترب ممثلو الحركة الصهيونية من مجلس الحرب البريطاني وطرحوا صفقة واضحة: قالوا لهم إن بإمكان بريطانيا الفوز بالحرب إذا دخلت الولايات المتحدة كحليف وأنهم قادرون على ضمان دخول أمريكا الحرب إلى جانب بريطانيا إذا وعدت بريطانيا بمنحهم فلسطين بعد هزيمة الأعداء هذا الاتفاق هو ما شكّل وعدًا لمنح فلسطين وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق وإن كانت بريطانيا لا تملك أي حق قانوني عليها آنذاك وهو ما تحقق لاحقاً حين انضمت الولايات المتحدة إلى الحرب في صف الحلفاء.
اليهود لم يغادروا أوروبا طوعاً طُردوا، عُزلوا، وقُمِعوا، وانتهت بهم سياسات عنصرية إلى الهولوكوست بين 1939 و1945 والتي أودت بحياة نحو 6 ملايين يهودي لكن أوروبا لم تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية فحُمّل الفلسطينيون ثمن الجريمة وكأن العدالة تُعالج بخلق ظلم جديد.
منذ عام 1947 لم تكن فلسطين بلا سند قانوني هناك عشرات القرارات الدولية أكدت: حق تقرير المصير وحق العودة وعدم شرعية الاحتلال والاستيطان واعتبار القدس الشرقية أرضاً محتلة لكن هذه القرارات لم تُنفّذ. والأخطر: حين حاول القانون أن يتحرك مؤخرا ضد الابادة الجماعية و جرائم الحرب عوقب القاضي نفسه ، قرارات المحاكم الدولية المتعلقة بجرائم حرب أو إبادة أو مساءلة قادة الاحتلال تم تجاهلها و التشكيك بشرعية المحاكم صار سياسة اوروبية امريكية وفرضت عقوبات سياسية واقتصادية على المدعي العام و القضاة أنفسهم هنا سقط القناع بالكامل: لم يعد الحديث عن ضعف القانون الدولي بل عن معاقبة العدالة نفسها حين تقترب من إسرائيل ما معنى نظام دولي يعاقب القاضي بدل المجرم؟ وأي ديمقراطية هذه التي تخاف حكم المحكمة الدولية ؟ و لماذا استخدمت ضد روسيا و غيرها.
ازدواجية المعايير بلغت ذروتها عند مقارنة فلسطين بأوكرانيا ففي أوكرانيا تُفرض العقوبات فوراً و الإعلام مفتوح و المقاومة مسلحة ليست ارهاب والدفاع عن الأرض حق مشروع أما في فلسطين الاحتلال يُبرَّر و المقاومة تُجرَّم و التضامن يُقمع والمظاهرات تُشيطن نفس القيم لكن التطبيق مختلف والسبب ليس القانون بل الهوية والسياسة.
الهولوكوست جريمة كبرى لكنها استخدمت كسلاح أخلاقي لإسكات النقد ومنع مقارنة الجرائم بينما أُهملت إبادة شعوب أخرى على مر التاريخ: مثل الهيريرو والناما في ناميبيا على يد الألمان (1904–1908)، و الارمن ، مجازر الكونغو الاستعمارية، إبادة السكان الأصليين في الأمريكيتين، المجازر الفرنسية في الجزائر، الاحتلال الياباني في الصين وكوريا بما في ذلك مجازر نانجينغ (1937–1938)، إبادة التوتسي في رواندا (1994)، الحروب والمجازر في فيتنام والعراق، وجرائم الاحتلال الألماني في أوروبا الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية عشرات الملايين أُبيدوا لكن الذاكرة الغربية اختارت من يُذكَر ومن يُنسى والألم نفسه صار خاضعاً للسياسة والتاريخ أداة للتلاعب بدل أن يكون مرآة للعدالة.
ليس كل اليهود صهاينة وأقل من 70% منهم يدعمون المشروع الصهيوني بينما تيارات دينية وفكرية ترفضه أخلاقيا وسياسيا ومع ذلك يُخلط عمداً بين نقد الصهيونية ومعاداة السامية لإسكات الصوت وإدانة التضامن.
ثم جاءت غزة وكشفت كل شيء: إبادة علنية، تجويع، قصف مستشفيات، قتل صحفيين، محو عائلات كاملة الأطفال يموتون من البرد، خيامهم تغرق تحت الأمطار، والعجز الأوروبي والعالمي صارخ عاجز عن تقديم أدنى مساعدة عاجز عن حماية أبسط حقوقهم الإنسانية. الاحتجاجات و التظاهر و وسائل التواصل كسرت احتكار الصورة وأجبرت الشباب الأوروبي على رؤية الحقيقة بعينيه بعيدا عن الرواية المزورة التي اعتاد عليها لعقود.
الاحتجاج اليومي أصبح ضرورة لأنه كسر الصمت وفضح التواطؤ وأعاد تعريف الديمقراطية كحق في المعرفة لا كشعار فارغ ليس ضد أوروبا بل من أجل أن تكون وفية لقيمها ومن أجل أن تقول الشعوب بصوت واحد: لسنا شركاء في الجريمة ولا في الكذب.
لحظة سقوط الرواية ليست نهاية الطريق بل بداية مرحلة جديدة حين يبدأ الناس بالسؤال والبحث ومحاسبة السلطة والإعلام لا تبقى أي رواية مزورة قادرة على الصمود و الحقيقة مهما حاولوا حجبها تخرج دائما… من تحت الركام.