لم تكن الأحكام الأخيرة بحق معتقلي بلدة زلفة مجرّد محطة قانونية في مسار قضائي طويل، بل لحظة ثقيلة أعادت إلى الواجهة سؤالاً لم يغادر وجدان الفلسطينيين في الداخل منذ أيار/ مايو 2021: متى تنتهي كلفة هبّة الكرامة، وهل انتهت أصلاً؟

في قاعات المحكمة، لا يُقاس ثقل هذه اللحظة بعدد سنوات السجن التي تُتلى بصوت هادئ، بل بما يحدث في اللحظة ذاتها، حين تُنتزع أعمار من شبّان في مقتبل الحياة، وحين يجلس الأهالي في مقاعدهم محمّلين بسنوات من الانتظار والقلق، ليكتشفوا فجأة أنّ الزمن الذي مضى لم يكن طريقًا نحو الانفراج، بل كان جزءًا من العقوبة نفسها. فالأحكام هنا لا تُغلق المسار، بل تكشف عمقه، وتعرّي ما فُرض خلاله من إنهاك طويل ومتراكم.

منذ هبّة الكرامة، لم يكن الزمن عنصرًا محايدًا. السنوات التي انقضت لم تكن فراغًا بين حدث وحكم، بل امتدادًا للعقاب، تُدار فيه القضايا ببُطء محسوب، ويُترك فيه المعتقلون وعائلاتهم معلّقين بين جلسة وأخرى، بين أمل يتجدّد وإحباط يتراكم.

في هذا السياق، لا تبدو الأحكام الصادرة بحق معتقلي بلدة زلفة نهاية لملفات، بل تكثيفًا متأخرًا لمسار عقابي مفتوح، فُرض على أفراد، لكنه طال مجتمعًا بأكمله.

هبّة الكرامة لم تكن انفجار غضبٍ عابر، ولا حدثًا منفصلًا عن سياقه. كانت لحظة تراكم، خرج فيها المكبوت إلى العلن، بعد سنوات من التمييز والإقصاء ومحاولات الفصل القسري بين الفلسطيني في الداخل وسياقه الوطني والإنساني الأوسع.

في أيار 2021، لم يخرج الناس لأنهم خطّطوا لحدثٍ سياسي منظّم، بل لأن ما جرى في القدس وغزة مسّ وجدانهم مباشرة، بوصفه جزءًا من ذواتهم، لا خبرًا بعيدًا عن حياتهم اليومية.

ما جعل هذه الهبّة صادمة للمؤسسة، لم يكن فقط اتساع رقعتها الجغرافية، بل طبيعة الرسالة التي حملتها: رسالة تقول إنّ الفلسطيني في الداخل، مهما تغيّرت الأطر القانونية التي تحكمه، لا يمكن فصله عن انتمائه، ولا عن شعوره بالمسؤولية الأخلاقية تجاه شعبه.

لقد كسرت هذه الرسالة سرديةً طويلة سعت إلى تحويل الفلسطيني إلى فردٍ معزول، محكومٍ بسقفٍ منخفض من التعبير والانخراط. لهذا السبب تحديدًا، لم تُقابل الهبّة بالفهم أو بالمراجعة، بل بالتطويق ثم الردع.

منذ الأيام الأولى، بدا واضحًا أن المقاربة الرسمية لا تهدف إلى معالجة أسباب ما جرى، بل إلى إعادة ضبط الحدود وترسيخ الكلفة. لم يكن الهدف تهدئة اللحظة، بل منع تكرارها؛ لا عبر الحوار، بل من خلال العقاب.

في هذا السياق، بدأت حملة الاعتقالات الواسعة التي طالت عشرات الشبان في مدن وقرى الداخل الفلسطيني. لم تكن هذه الاعتقالات إجراءً أمنيًا عابرًا، بل بداية مسار طويل، تحوّلت فيه اللحظة الجماعية إلى مئات الملفات الفردية.

هذا التفكيك لم يكن بريئًا؛ إذ جرى التعامل مع كل ملف بوصفه حالة منفصلة، بينما كان الهدف الحقيقي هو إدارة الحدث ككل، وتفريغه من معناه الجماعي.

الانتقال من الشارع إلى أقبية التحقيق لم يكن مجرد إجراء تقني، بل خطوة سياسية بامتياز.

في غرف التحقيق، لم يُواجه المعتقلون فقط بأسئلة حول أفعال محددة، بل بساعات طويلة من الضغط النفسي ومحاولات كسر الإرادة، في سياق بدا فيه أن المطلوب يتجاوز الوصول إلى الحقيقة، إلى إيصال رسالة. فالفرد هنا لم يُعامل كمشتبه به فحسب، بل كحامل لرمزية يجب تحييدها، وكأن عليه أن يدفع ثمن لحظة لم يكن صانعها وحده.

ومع انتهاء مرحلة التحقيق، لم يتوقف المسار، بل دخل طورًا أكثر تنظيمًا عبر لوائح الاتهام.

توسّعت التوصيفات القانونية، وتشددت الصياغات، وجُمعت أفعال متفرقة ضمن إطار واحد ثقيل، سمح برفع منسوب العقوبة وتحويل الاحتجاج إلى جريمة، والانخراط الجماعي إلى خطر.

هنا، لم يعد السؤال محصورًا بما جرى في أيام الهبّة، بل بما يُراد تثبيته بعدها؛ معادلة تقول إن الخروج عن السقف المرسوم ستكون له كلفة طويلة الأمد.

في هذه المرحلة، بدأ الزمن يؤدي دوره الكامل. فالمحاكمات لم تكن سريعة ولا حاسمة، بل امتدت على مدى سنوات: جلسات تُؤجّل، قرارات تُرحّل، وانتظار يتحوّل إلى نمط حياة.

الزمن، في هذا السياق، لم يكن محايدًا، بل أداة عقاب صامتة. فحتى قبل صدور الأحكام، كان المعتقلون وعائلاتهم قد دفعوا ثمنًا نفسيًا واجتماعيًا باهظًا، حيث عُلّقت الحياة اليومية على قرار مؤجَّل لا يُعرف متى يصدر، ولا في أي اتجاه. ومع انتقال الملفات إلى أروقة المحاكم، دخل الردع مرحلة أكثر تعقيدًا.

القضاء، في هذا الإطار، لم يكن ساحة للفصل القانوني البارد، بل جزءًا من مسار أوسع، أُريد له أن يمنح العقوبة شرعية مؤسسية.

الفجوة التي برزت في عدد من القضايا بين الفعل المنسوب ومستوى العقوبة المطلوبة أو المفروضة، لم تكن تفصيلًا عابرًا، بل انعكاسًا لمزاج سياسي يرى في الهبّة خطرًا يجب تحييده بالكامل.

ثم جاء السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ليُحدث تحوّلًا إضافيًا في المناخ العام. تحوّل لم يبقَ محصورًا في المجال العسكري أو الأمني، بل امتدّ سريعًا إلى القضاء، والسجون، وطريقة التعامل مع الفلسطينيين في الداخل عمومًا.

بعد هذا التاريخ، تقلّص أي هامش إنساني أو مخفّف، وتقدّمت لغة التشدد، وأُعيدت قراءة الملفات القائمة ضمن مناخ أكثر قسوة.

بالنسبة لمعتقلي هبّة الكرامة، كان لهذا التحوّل أثر مضاعف. فالقضايا التي استُنزفت لسنوات، لم تُعتبر قديمة أو منفصلة، بل أُدرجت من جديد في سياق أكثر حدّة، كأن الزمن عاد ليُحمّلها أثقالًا إضافية.

العقاب هنا لم يعد مرتبطًا بما جرى في 2021 فقط، بل بما أصبح ممكنًا ومقبولًا في مناخ ما بعد السابع من أكتوبر.

داخل السجون، تجلّى هذا التحوّل بشكل مباشر: تشديد في الإجراءات، تراجع في الظروف المعيشية، تنكيل وتعذيب جعل العقوبة تجربة يومية ثقيلة.

السجن لم يعد فقط مكانًا لتنفيذ الحكم، بل مساحة تُدار فيها القسوة كروتين، وتُختبر فيها قدرة الإنسان على الاحتمال، يومًا بعد يوم.

هذا المسار لم يقتصر أثره على المعتقلين وحدهم. فالشبّان الذين دخلوا السجن كانوا في غالبيتهم في مقتبل العمر.

سنوات كان يمكن أن تكون زمن دراسة وبناء مستقبل، تحوّلت إلى فراغ قاسٍ خلف القضبان.

هذا الاقتطاع من العمر لا يُقاس فقط بعدد السنوات، بل بما يخلفه من فجوات نفسية واجتماعية يصعب ترميمها لاحقًا.

أما العائلات، فقد دخلت بدورها في زمن مختلف: زمن انتظار طويل، وقلق دائم، وتكيّف قسري مع غيابٍ تحوّل إلى نمط حياة.

في كل جلسة محكمة يتجدد الأمل، وفي كل تأجيل يتراكم الإحباط.

هذه الحياة المُعلّقة لا تظهر في نص الأحكام، لكنها تشكّل جزءًا أساسيًا من الثمن المدفوع.

ومع امتداد هذا المسار، برز شعور متزايد بالوحدة. ليس بالضرورة بسبب غياب التعاطف، بل نتيجة غياب إسناد منظم ومستدام يوازي حجم الكلفة.

الحضور بدا متقطّعًا، مرتبطًا بمحطات معينة، دون أن يتحوّل إلى إطار جامع يتعامل مع الملف بوصفه قضية مجتمع، لا ملفات أفراد.

هذا الإحساس، حتى حين لا يُقال صراحة، ترك أثرًا عميقًا في الوعي الجمعي.

وفي هذا السياق، جاءت أحكام معتقلي بلدة زلفة لتشكّل ذروة لهذا المسار. لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت كاشفة. فهي صدرت بعد سنوات من الاستنزاف، وفي مناخ أكثر تشددًا، وفي لحظة تراجع فيها حضور القضية في الفضاء العام.

القسوة هنا لم تكن فقط في عدد السنوات، بل في توقيتها ودلالتها: تثبيت كلفة الهبّة بعد طول انتظار.

قضية معتقلي زلفة، بهذا المعنى، ليست حالة استثنائية، بل نموذج لطريقة إدارة الملف: تفكيك جماعي إلى قضايا فردية، إطالة زمنية تُنهك، ثم أحكام عالية تُعيد تعريف الحدث بأثر رجعي.

هكذا، لا تُغلق الصفحة، بل تُثبّت، ويُقال بوضوح إن الثمن لم ينتهِ بعد.

في نهاية هذا المسار الطويل، لم يعد ممكنًا النظر إلى ملف معتقلي هبّة الكرامة كقضية قانونية أُغلقت، أو كحدثٍ مضى وانتهى.

ما تكشّف خلال السنوات الماضية هو مسار متكامل، بطيء، ومتعمَّد، صُمّم ليُنهك لا ليُحاسب فقط؛ ليُراكم الأثر لا ليُنهيه؛ وليحوّل الزمن نفسه إلى أداة عقاب، لا تقل قسوة عن السجن.

الأحكام القاسية، وآخرها أحكام معتقلي زلفة، لا تختصر سنوات سجن فحسب، بل تختصر تجربة إنسانية كاملة:

أعمارٌ اقتُطعت، حياةٌ عُلّقت، عائلاتٌ عاشت على هامش الانتظار، ومجتمعٌ وجد نفسه يراقب هذا المسار وهو يتقدّم بصمت، دون أن يتحوّل إلى قضية مركزية حاضرة باستمرار.

هنا، لا تكون القسوة في الحكم وحده، بل في الإحساس بأن الثمن يُدفع على مهل، وبلا ضجيج، وبلا نهاية واضحة.

ما جرى منذ أيار 2021 لم يكن سلسلة أخطاء فردية، بل اختبارا جماعيا، اختبارا لقدرة الفلسطينيين في الداخل على التعبير، وعلى الاحتمال، وعلى تحمل كلفة الانتماء حين يتجاوز السقف المفروض. وفي هذا الاختبار، لم يُدفع الثمن من طرف واحد دفعه الشبان الذين وجدوا أنفسهم خلف القضبان في عمر مبكر، ودفعته العائلات التي استُنزفت أعصابها في سنوات من القلق والانتظار، ودفعه المجتمع بأكمله حين بدأت الرسالة تتّضح، العقاب موجه إلى الوعي قبل أن يكون موجّها إلى الأفراد.

هبة الكرامة، في معناها الأعمق، لم تكن لحظة مواجهة فقط، بل لحظة وعي. والرد عليها لم يكن قانونيا باردا، بل محاولة لإعادة ضبط هذا الوعي، ووضع حدود صارمة لما هو مسموح وما هو محظور. لذلك، لم يكن العقاب فورياً أو عابراً، بل ممتداً، متراكماً، يُدار عبر المحاكم، والسجون، والزمن، والصمت العام.

بعد السابع من أكتوبر 2023، ازدادت هذه القسوة وضوحاً. لم يعد الردع مؤجلاً فقط، بل بات مفتوحا، أكثر حدة، وأقل مواربة. وفي هذا المناخ، وجد معتقلو هبّة الكرامة أنفسهم يدفعون ثمنين في آن واحد، ثمن لحظة شاركوا فيها قبل سنوات، وثمن مرحلة سياسية جديدة لا ترى في التخفيف خياراً مطروحاً.

ورغم كل ذلك، يبقى السؤال الأثقل معلقاً - ماذا يعني استمرار هذا المسار، ماذا يعني أن تبقى هذه الملفات مفتوحة، وأن تُدار بهذه الطريقة، وأن تُترك آثارها تتراكم على البشر والمجتمع، وهل يُراد لهذا الثمن أن يصبح جزءا دائما من الحياة السياسية والاجتماعية للفلسطينيين في الداخل؟

هبّة الكرامة لم تنتهِ. لم تنتهِ لأنها لم تكن مجرد أيام في الشارع، بل لحظة وعي ما زالت آثارها تُواجه بمحاولة تطويقها وتثبيت كلفتها. لم تنتهِ لأن معناها لم يُهزم، ولأن أثرها لم يُمحَ، ولأن الأسئلة التي طرحتها ما زالت بلا إجابة عادلة. وما دام هذا المسار قائما، فإن المسؤولية لا تقع على المعتقلين وعائلاتهم وحدهم، بل على المجتمع كله في كيفية حمل هذا الملف، وفي الإصرار على إبقاء قضية المعتقلين حيه بوصفها قضية إنسانية وسياسية لا يجوز تركها تُستنزف في الصمت.