
لم يكن سور الصين العظيم يومًا مجرد أحجارٍ متراصة على امتداد الجبال، بل كان انعكاسًا لعصرٍ خاف من الغزو، فاختار أن يحتمي بالجدران،وبعد قرونٍ طويلة، يقف ملايين البشر أمامه اليوم لالتقاط الصور، وقد تحوّل من أداة عزلٍ وحرب إلى شاهدٍ صامت على تاريخٍ مضى.
على بعد آلاف الكيلومترات، وفي زمنٍ يُفترض أنه أكثر تحضّرًا، يقف سور الرام شمال القدس المحتلة شاهدًا على واقعٍ مأساوي يعيشه الفلسطينييون ،واقع لم ينتهِ بعد، واقعٍ يُبنى فيه الجدار لا ليُحكى في كتب التاريخ، بل ليُعاش كل يوم.
سور الرام، ذلك الجدار الإسمنتي الرمادي، سورٌ يقطع الطريق على الأحلام قبل أن يقطع الشوارع، ويقسم الجغرافيا كما يقسم الحياة، بناه الاحتلال بذريعة “الأمن”، لكن ما خلّفَه على الأرض كان انعدامًا للأمان الإنساني؛ وأمان الوصول، وأمان التواصل، وأمان العيش بكرامة.
كما فصل سور الصين قديمًا بين الإمبراطورية والآخر ،يفصل سور الرام اليوم بين الفلسطيني وعائلته، بين الطالب وجامعته، وبين المريض ومستشفاه، وبين العامل ورزقه.
غير أن الفرق الجوهري أن سور الصين حمى حدود دولة، بينما يحاصر سور الرام مدينة بأكملها، ويُحوّل سكانها إلى غرباء في محيطهم.
في الصين، دُفن آلاف العمّال تحت حجارة السور خلال بنائه، فكان الثمن فادحًا، لكنه أصبح جزءًا من تاريخٍ مغلق، أما على سور الرام فقد عشرات الشبان حياتهم ونزفت دماء المئات منهم بحثا على لقمة عيش مغمسة بالدم ، قلقٌ دائم هنا، فلا ينتمي الألم إلى الماضي فقط، بل يسكن الحاضر بكل ثقله.
المفارقة أن سور الصين العظيم بات اليوم رمزًا عالميًا، تُضاء أجزاؤه ليلًا وتُفتح أبوابه للزوّار، بينما يُغلق سور الرام الأبواب في وجوه أصحاب الأرض، ويحوّل المدينة إلى جزيرة معزولة.
الأول صار أثرًا سياحيًا تُنفق عليه الدول للحفاظ عليه، والثاني صار عبئًا إنسانيًا يدفع الفلسطينيون ثمنه من أعمارهم.
كلا السورين كُتب بالحجر، لكن الفرق أن أحدهما كُتب وانتهى، والآخر ما زال يُكتب بالمعاناة.
سور الصين يُذكّر العالم بأن الخوف لا يصنع حضارة دائمة، وسور الرام يذكّرنا بأن الجدران، مهما ارتفعت، لا تستطيع أن تُلغي حق الإنسان في الحياة والحرية.
ربما يأتي يومٌ تُزال فيه هذه الجدران، أو تتحوّل إلى دروسٍ تُروى للأجيال القادمة، إلى ذلك الحين، سيبقى سور الرام ليس مجرد بناءٍ إسمنتي، بل قصة جرح مفتوحة عن شعبٍ يعيش خلف الجدار، وينتظر أن يُكتب له مستقبلٌ بلا أسوار وحياة بلا قيود.