
الناطق الإعلامي باسم الشرطة الفلسطينية
في عصرٍ أصبحت فيه التكنولوجيا جزءاً لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية، برز الاحتيال المالي الإلكتروني كواحدة من أخطر الجرائم المستحدثة، لا لأنه يستهدف المال فحسب، بل لأنه يضرب في عمق الثقة الإنسانية، ويستغل حاجة الناس، وجهلهم، وحسن نواياهم، إنها جريمة صامتة، لا تُسمَع لها طلقات ولا تُرى لها آثار كسر، لكنها تترك خلفها خسائر موجعة، وأثراً نفسياً واقتصادياً بالغ القسوة.
الاحتيال المالي الإلكتروني هو جريمة عابرة للحدود، تتخذ من وسائل التكنولوجيا الحديثة أداةً أساسية لتنفيذها، مستهدفة الحسابات البنكية، والمحافظ الإلكترونية، والبيانات الشخصية للمواطنين، وغالباً ما يكون مرتكبوها أشخاصاً يتمتعون بقدرات معرفية وتقنية عالية، ويمتلكون مهارات إقناع ولغة خطاب مدروسة، تجعل الضحية يسلم مفاتيح أمواله بيديه، دون أن يشعر أنه وقع في شَرَكٍ محكم.
وتتنوع أساليب الاحتيال الإلكتروني، لكنها تلتقي جميعها عند نقطة واحدة: التلاعب بالعقل قبل سرقة المال، ففي بعض الحالات، يكون الاحتيال طوعياً، حين يتلقى الضحية اتصالاً هاتفياً من شخص يدّعي أنه موظف في بنك أو مؤسسة مالية رسمية، مستغلاً الخوف أو الاستعجال، ليطلب معلومات حساسة كأرقام البطاقات أو رموز التحقق، فيقدّمها الضحية بحسن نية، وباستهتار غير مدرك أنه يوقّع بنفسه على خسارته، وفي حالات أخرى، يتم الاحتيال عبر روابط إلكترونية تُنشر بواجهات جذابة أو عروض مغرية، وبمجرد الضغط عليها، يُخترق الهاتف أو الحاسوب، وتُسرق البيانات دون علم صاحبها.
كما لم تسلم الإعلانات الوهمية من هذا المشهد المظلم، إذ تنتحل بعض الجهات الاحتيالية صفة مؤسسات مصرفية أو شركات معروفة، وتُروّج لخدمات أو تحديثات مزيفة، هدفها الوحيد استدراج المستخدم وسحب بياناته المالية، ومع الانتشار الواسع للمحافظ الإلكترونية في الآونة الأخيرة، ازدادت المخاطر، خاصة مع الاستخدام غير الواعي، وغياب الاحتياطات الأمنية اللازمة، ما جعل هذه المحافظ هدفاً سهلاً للمحتالين.
وقد سجّلت الشرطة مؤخراً مئات القضايا المرتبطة بالاحتيال المالي الإلكتروني، والتي تسببت بسرقة أموال من الحسابات الشخصية للمواطنين، في أرقام تعكس حجم الكارثة، وخطورة الاستهانة بهذا النوع من الجرائم، فالأمر لم يعد حالات فردية معزولة، بل ظاهرة متنامية تهدد الاستقرار المالي للأفراد، وتُقوّض ثقة المجتمع بالأنظمة الرقمية الحديثة.
إن مواجهة الاحتيال المالي الإلكتروني لا تكون فقط بتشديد العقوبات أو ملاحقة الجناة، على أهميتها، بل تبدأ أولاً بنشر الوعي الرقمي، وتعزيز الثقافة الأمنية لدى المستخدمين، وهذا ما كثفته الشرطة في الأسابيع الماضية وضمن الحملة الشرطية للوقاية من الجريمة فالمعرفة هنا ليست ترفاً، بل درع حماية، ويقع على عاتق المؤسسات المصرفية والإعلامية والشرطة مسؤولية كبرى في توعية المواطنين بأساليب الاحتيال، وطرق الحماية، والتحذير من مشاركة أي معلومات شخصية أو مالية تحت أي ظرف، إضافةً إلى العمل الشرطي الاجرائي المتمثل باستقبال الشكاوى ومتابعتها وملاحقة مرتكبيها وتقديمهم للعدالة والعمل على تطوير مهارات وقدرات ضباط ومنتسبي دائرة مكافحة الجريمة الالكترونية .
كما أن الاستخدام الآمن للمحافظ الإلكترونية يتطلب وعياً حقيقياً بأهمية كلمات المرور القوية، وتفعيل أنظمة الحماية الثنائية، وتجنب الروابط المشبوهة، وعدم الانسياق وراء الإعلانات المغرية فالتكنولوجيا، وإن كانت نعمة عظيمة، يمكن أن تتحول إلى نقمة مدمّرة حين تُستخدم بلا وعي أو حذر.
في النهاية، يبقى الاحتيال المالي الإلكتروني جريمة العصر بامتياز، لا تُواجَه بالقوة وحدها، بل بالعقل، واليقظة، والتعاون بين الفرد والمؤسسة ومؤسسات الدولة، وحين نحصّن الوعي، نحمي المال، ونحفظ الثقة، ونمنع المحتال من أن يجد طريقه إلى جيوبنا عبر شاشاتنا.