
باعتقادي المتواضع أن النقاشات داخل المجتمع الفلسطيني بشكل عام وداخل الفلسطينيين في إسرائيل على وجه التحديد ـ وهذا موضوعنا هنا ـ لم تبلغ إلى الآن مستوى يوازي الحاصل في مساحة فلسطين أرضًا وقضية وجماعة. مثلًا، أراني مستغربًا بل ممتعضًا من النقاش حول دخول ائتلاف أو عدم دخوله، البحث عن ميزانيات مهما يكن الثمن، قائمة مشتركة أو قائمتان إلى آخر القائمة. كأن هناك نوعًا من انقطاع عن الواقع والوقائع. كأن فلسطين ـ كاسم شامل ـ بخير وبحبوحة وأن الخيارات أمام الفلسطينيين في إسرائيل عديدة وكلها "مسعدة" وواعدة.
سأحاول هنا أن أسجل بلغتي ما هو حاصل فعلًا، رسم خريطة الواقع ولو بالكلمات تساعدنا على إدراك ما نحن فيه.
خطابنا المتداول الآن لا يخلو من تلميحات إلى أننا في "خطر"، ومع هذا فإن سير أمورنا وسجالاتنا وإن عكست نوعًا من الارتباك والتفكير فإنها في غالبيتها لم تدخل دائرة حالة طوارئ ولا تنم عن وعي بتهديد وجودي.
ـ السياسات الإسرائيلية الرسمية التي انتقلت من إدارة الصراع إلى حسمه عبر الإخضاع والإلغاء والتغييب، وانتقلت من التطهير العرقي إلى الإبادة.
ـ تدمير حاضرة فلسطين الجنوبية ـ غزة ـ تدميرًا كاملًا، وإبادة أهلها واقتلاعهم للمرة المئة من مكانهم الفلسطيني.
ـ شن حرب اقتلاع وتدمير على الحواضر الفلسطينية في الضفة الغربية والقدس وسحق أهلها.
ـ محاولة تصفية مسألة اللاجئين عبر تدمير المخيمات في الضفة وخارج فلسطين عبر القضاء على وكالة "أونروا".
ـ شن أبشع حملة ضد الأهل في النقب وتجمعاتهم على أكثر من مستوى، الجميع على مهدافها وليس القرى المسلوبة الاعتراف فقط.
ـ نزع الشرعية السياسية بشكل شبه كامل عن الفلسطينيين في إسرائيل وإفراغ مواطنتهم من مضمونها.
ـ نزع إنسانية الفلسطيني عمومًا تمهيدًا وتبريرًا لمزيد من الإجراءات والسياسات القمعية.
ـ الاستعداد لخوض مغامرات عبر الحدود الدولية، لا سيما في سورية ولبنان لأغراض توسعية.
ـ عجز عربي ودولي عام عن الإتيان بما يخفف أو يمنع فظائع أخرى في المدى المنظور.
ـ "مركز فلسطيني" غائب تمامًا ولو لتوكيد الرواية والمطلب.
ـ لا وجود في هذه اللحظات لمشروع وطني فلسطيني جامع سوى تلك الاجتهادات التي تبقي رأس فلسطين فوق الماء.
ـ استعداد اليمين الإسرائيلي كله ـ وبصمت المجتمع الإسرائيلي كله ـ إلى التصعيد في المدن المشتركة وفي الجليل والمثلث كجزء من عقيدة حسم الصراع بالإخضاع.
ـ تغيير البنية التحتية الدستورية في إسرائيل. "قانون القومية" وروحه مقرونة، حسب مركز "عدالة"، بثلاثين تشريعًا قمعيًا واقتراحات لتعديلات بهذا الاتجاه.
ـ اقتران الإيديولوجيا بالنزعات الدفينة من خوف وعنصرية وجوهر كولونيالي للمجتمع الإسرائيلي بتغيير البنية الدستورية للبلاد وبتشريعات تيسّر القمع والبطش والتوحش ـ كلها تنذر باحتمالات قاسية وبقطع حبل السياسة والحياة كما نتحدث عنها وقلبها فوق رؤوسنا. الاعتقاد في المؤسسة أن الظروف تسمح إقليميًا ودوليًا بإنجاز ما تأخر من تصفية قضية فلسطين.
في ظروف كهذه، الخطر الوجودي واضح وحاضر وإن تسلّى بعضنا بـ"حياة عادية". ظروفنا ليس فيها أي شبكة أمان للفلسطينيين في إسرائيل. من هنا، تبدو نقاشاتنا ترفًا أو هي ضرب من اللهو في وقت لا نملكه وفي مساحات يمكن أن نفقدها غدًا صباحًا.
من هنا، عندما نقول قائمة وحدوية لا نقصد الانتخابات بقدر ما نقصد توحيد إرادة الناس وشد أزرها وانتخاب قيادة وتشكيل نوع من الإرادة السياسية التوافقية لتمثلنا وبالأساس خارج الكنيست. فإلى هناك تجري الأمور، إلى تجريدنا من هذا المورد السياسي.
وعندما نطرح تطوير المستوى التنظيمي للجنة المتابعة لا نقصد اللجنة بقدر ما نقصد شعبنا وذروة اليقظة مما يمكن أن يحصل بعد غد. وعندما ننتقد المتسكعين على باب "الراب دروكمان" وقناة 12 أو 14 لا نقصد أن نشيطنهم بقدر ما نقصد أن نلفت نظرهم ونظر شعبنا أكثر، إلى الهوة السحيقة بين فرضياتهم وبين الواقع، بين حديثهم عن ميزانيات وحرب الإبادة، بين إتيانهم بنوع من الغطرسة المستندة إلى وهم وبين موقعهم وموقعنا في مخططات السياسة الإسرائيلية.
لقد تجاوز المجتمع الإسرائيلي النقطة التي يمكنه أن يعود منها للتصحيح. الفاشية لليهود والكولونيالية للفلسطينيين واضحتان وضوح الشمس. في شرط كهذا تنتقل فيه السياسة من الكلام إلى التوحش، ومن الصوابية والحوار إلى القمع المنهجي، يصير على الناس ضحايا هذا الشرط الفعليين والاحتماليين أن يعلنوا حالة طوارئ في إنتاج "سياستهم" و"خطابهم"، في سلوكهم وعلاقتهم مع أنفسهم ومع هذا الشرط. فلا أحد مهما يبلغ من "حنكة" أو "خداع ذات" أو "غش ذهني" أو "وهم"، أو أن يشرح للناس كيف يمكنه أن يأتلف مع الذين فرضوا عليه وعلينا هذا الشرط ولا يخفون نواياهم أن الهدف إخضاعه أو استعباده؟