
-مستشار اقتصادي دولي - عضو مجلس التحول الرقمي الدولي
يعيش الاقتصاد الفلسطيني حالة دائمة من اللايقين الممنهج بسبب اعتماده المطلق على المركز المالي (المقاصة والموازنة العامة). لقد أثبتت التجارب أن أي صدمة سياسية أو أمنية كفيلة بشلّ هذا المركز والدورة الاقتصادية بأكملها. إن التحول إلى "اقتصاد الصمود الحضري" يمثل استجابة مبتكرة وضرورية، حيث يتم نقل ثقل التنمية من المركز الهش إلى القاعدة الصلبة المتمثلة في البلديات والمجتمعات المحلية.
مأزق المركزية والهشاشة الهيكلية
لطالما كان الاقتصاد الفلسطيني أسيرًا لنموذج تنموي يعتمد على المساعدات الخارجية والإنفاق الحكومي المركزي. هذا الاعتماد المفرط يعني أن الأزمة المالية المركزية، التي تتجسد في تعطل تحويل أموال المقاصة أو تأخر دفع الرواتب، لا تلبث أن تتحول إلى أزمة معيشية شاملة. على سبيل المثال، شهدت إيرادات المقاصة انخفاضاً حاداً وصل إلى 23.5% في فترات الأزمات الأخيرة ، مما أدى إلى شلل شبه كامل في الإنفاق الحكومي. هذا الترابط الوثيق بين المركز والمحيط هو نقطة ضعف استراتيجية يجب تفكيكها عبر تعزيز اللامركزية الاقتصادية.
إن البلديات، بوصفها أقرب مؤسسات الحكم إلى المواطن، تمتلك القدرة على أن تكون خط الدفاع الأول والأخير ضد هذه الصدمات. لكن دورها التقليدي ظل محصورًا في تقديم الخدمات الأساسية. في ظل معدلات بطالة مرتفعة جداً، حيث تجاوزت 31% في الضفة الغربية ووصلت إلى مستويات قياسية في قطاع غزة ، يصبح دور البلديات في توفير فرص العمل المحلي أمراً حيوياً. يجب أن تتحول البلديات من مجرد مقدم خدمة إلى وحدات اقتصادية مصغرة قادرة على توليد القيمة المضافة، وتوفير فرص العمل، وضمان استمرارية الحياة الاقتصادية في نطاقها الجغرافي، مما يقلل من اعتماد المواطنين على الرواتب الحكومية كمصدر دخل وحيد.
البلديات: من مقدم خدمة إلى محرك تنمية
يتطلب تفعيل دور البلديات كقاطرة للتنمية المحلية إعادة تعريف لمفهوم "السيادة الاقتصادية". فإذا كانت السيادة المالية الكبرى محاصرة، فإن السيادة الاقتصادية الصغرى (المحلية) لا تزال قابلة للتحقيق عبر محورين رئيسيين:
1. تعزيز الاستقلالية المالية وتوليد الإيرادات: بدلاً من الاعتماد الكلي على تحويلات الموازنة المركزية، يجب على البلديات تطوير أدوات جباية محلية ذكية وفعالة. هذا لا يعني زيادة الأعباء على المواطن، بل تحسين كفاءة التحصيل، وتوسيع القاعدة الضريبية المحلية لتشمل مشاريع مدرة للدخل تديرها البلدية نفسها (كإدارة أسواق الجملة أو الاستثمار في البنية التحتية الرقمية). إن كل دينار يُحصّل محليًا هو دينار محصن ضد الابتزاز السياسي الخارجي، ويُعزز الثقة بين المواطن والمؤسسة المحلية.
2. الشراكة والتمويل المجتمعي اللامركزي: يجب أن تتحول البلدية إلى محفز للشراكة بين القطاع العام المحلي والقطاع الخاص والمجتمع المدني. يمكن للبلديات إنشاء صناديق تنمية محلية، بالتعاون مع البنوك والمغتربين، لتمويل المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تركز على احتياجات المجتمع المحلي. هذا التمويل المجتمعي يخلق دورة اقتصادية داخلية لا تتأثر بالتقلبات الخارجية، ويضمن أن رأس المال يخدم أولويات التنمية المحلية. كما أن تفعيل دور المغتربين في الاستثمار المباشر في مشاريع بلدياتهم الأصلية يمثل رافعة قوية لاقتصاد الصمود.
ركائز "اقتصاد الصمود الحضري"
يقوم اقتصاد الصمود الحضري على ثلاثة ركائز أساسية تهدف إلى تقليل التبعية وزيادة المرونة:
أ. الأمن الطاقي المحلي كرافعة للاستقلال: تُعد الطاقة نقطة ضعف حرجة. يمكن للبلديات أن تقود مشاريع واسعة النطاق للطاقة الشمسية على أسطح المباني العامة والخاصة، ليس فقط لتوليد الكهرباء للمرافق البلدية، بل لبيع الفائض للشبكة المحلية، مما يقلل من فاتورة الطاقة المركزية ويخلق مصدر دخل مستدام. هذا الاستثمار في الطاقة المتجددة هو استثمار في الاستقلال الاقتصادي، ويقلل من التبعية لمصادر الطاقة الخارجية.
ب. الأمن الغذائي والزراعة الحضرية كآلية للصمود: في ظل القيود على الأراضي والموارد، يمكن للبلديات دعم وتسهيل مشاريع الزراعة الحضرية والعمودية، واستغلال الأراضي غير المستغلة داخل النطاق البلدي لإنتاج الخضروات والفواكه الأساسية. هذا يعزز الأمن الغذائي للمجتمع، ويقلل من تكلفة الاستيراد، ويوفر فرص عمل موسمية. كما أن دعم المزارع الصغيرة المحلية يساهم في الحفاظ على الأراضي وتثبيت السكان.
ج. دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة (SMEs) كقاعدة للتوظيف: البلديات هي الأقدر على تحديد احتياجات السوق المحلي. يمكنها توفير حاضنات أعمال محلية، وتقديم حوافز ضريبية للمشاريع التي توظف الشباب، والتركيز على قطاعات الخدمات التي لا تتطلب بنية تحتية ضخمة، مثل التعهيد الخارجي (Outsourcing) والخدمات الرقمية. إن دعم هذه المشاريع يضمن تنوع مصادر الدخل ويقلل من الاعتماد على الوظيفة الحكومية. وتبرز أهمية هذا الدور عندما نعلم أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تشكل ما يقارب 98% من المنشآت العاملة في الاقتصاد الفلسطيني ، مما يجعلها القاعدة الأساسية لأي استراتيجية صمود.
الخاتمة: اللامركزية كاستراتيجية مقاومة
إن التحول نحو اقتصاد الصمود الحضري ليس مجرد خيار تنموي، بل هو استراتيجية مقاومة اقتصادية شاملة. عندما تتمكن البلديات من تأمين احتياجاتها الأساسية من الطاقة والغذاء والتمويل، فإنها تقلل من فعالية أدوات الضغط المركزية وتحد من تأثير الصدمات الخارجية. هذا النموذج لا يهدف إلى الانفصال عن الدولة المركزية، بل إلى تقويتها من خلال بناء قاعدة اقتصادية صلبة ومرنة، حيث تعمل البلديات كخلايا حية تضمن استمرارية الحياة الاقتصادية حتى في أصعب الظروف. المستقبل الاقتصادي الفلسطيني لا يُبنى فقط على المفاوضات السياسية الكبرى، بل على آلاف القرارات الاقتصادية الصغيرة التي تتخذها المجتمعات المحلية يوميًا لضمان بقائها واستمرارها. إن اقتصاد الصمود الحضري هو الطريق نحو سيادة اقتصادية حقيقية تبدأ من حيث يعيش المواطن، وتؤسس لمرحلة جديدة من التنمية المستدامة.