بينما انتقلت إسرائيل الرسميّة في سياساتها من إدارة الصراع مع الشعب الفلسطينيّ وقضيّته إلى حسمه عبر الترحيل والإبادة والقمع اليوميّ، ينشط "تيّار" سياسيّ عندنا في السعي إلى المشاركة في حكومات إسرائيليّة تعتمد هذه السياسات وتمارسها. بمعنى أن هناك تناسبًا عكسيًّا بين الفكرة الذي يروّج لها البعض على أنها "نهج جديد"، وبين جوهر إسرائيل دولة وشعبًا في هذه المرحلة. أن تُقلع عكس الزمن وعكس المنطق السياسيّ البسيط، وعكس الوقائع على الأرض، يعني إمّا أنك سابق لعصرك ترى كزرقاء اليمامة ما لا نرى نحن، أو أنك تملك "قوّة" ستجعل حالة الاستعمار النافذة تخجل من نظراتك وتنكص إلى إحقاق حقوق شعبك دون قيد أو شرط. ويُمكن، في اتجاه معاكس تمامًا، أن تنطبق عليك تسميات وأحكام كثيرة تردّ مثل هذه النزعة إلى أصولها، وهو ما أرجّحه.

مهمّ بمكان أن نحاول الإمساك باللحظة السياسية في إسرائيل كي نقرأ بالعقل نزعة "التيار" المذكور إلى الانخراط في منظومة أبرتهايد واضحة واستعمار ناجز. كي نفهم لماذا يُريد البعض - منصور عبّاس مثلًا - أن يكون جزءًا من فاشيّة يهودية تمارس فاشيتها ليس في غزة والضفّة فقط، بل في النقب حيث أعطى معظم الناخبين العرب أصواتهم لـ"القائمة الموحّدة" في الانتخابات الأخيرة. هل أنقذ نهجه القرى التي هُدمت أو أهلها من التشرّد، أو هل غيّرت المحاكم من قراراتها في قضايا معلّقة بين الحكومة الفاشية وأذرعها وبين أهالي النقب؟ للقول، أن "المنظومة" كلّها من أصغر لجنة برلمانيّة إلى المحكمة العليا مرورًا بالحكومة وأذرع الأمن، من إدارة الصراع مع الفلسطينيين على كامل المساحة بين البحر والنهر إلى حسمه بكل طريقة ممكنة، ومن بينها القانون وجهاز القضاء والخطاب والسياسات وما إلى ذلك. الحكومة الإسرائيلية التي تجسّد هذا النهج لا تُخفي ذلك أبدًا. هذا هو مشروعها الذي تطبّقه في كل المستويات بما فيه تغيير طبيعة الحكم لأنها ساعية إلى الحسم مقابل كلّ الفلسطينيين.

إن المنظومة الإسرائيلية بحكومتها ومعارضتها موجودة في لحظة تاريخيّة لا تصنّف الفلسطينيين الموجودين بدورهم على مِهدافها بين هذا معنا وهذا ضدّنا. لا تميّز بينهم إلّا لدواعي تكتيكيّة ريثما تتمكّن أكثر وأكثر. لا تعنيها الفوارق بينهم إلّا بالقدر الذي تخدم هذه الفوارق مشروعها الكبير. من هنا تربيتها ورعايتها لـ"النهج الجديد"، ومن هنا الإرهاب البوليسيّ، ومن هنا التلويح بقمع المصوّتين العرب، ومن هنا التلويح بشطب قوائم عربيّة وما إلى ذلك. أمّا في مستوى آخر، الإعلام والدعاية والتمثيلات أمام الرأي العام العالمي، فهي بحاجة ماسة إلى ترميم صورتها كدولة تمارس الإبادة وترتكب جرائم حرب، من خلال الكابتن إيلا أو يوسف حدّاد، و"النهج الجديد". هؤلاء كلّهم يخدمون ترميم الصورة التي تلوّنت بألوان الإبادة والتدمير. ولا يختلف أثر عربيّ في حكومة إبادة وترحيل عن أثر يوسف حدّاد في النفس العربيّة، وليس بالضرورة المسيّسة والمؤدلجة بروح شعبها وقضيّته.

لا أعتقد أن أصحاب "النهج الجديد" وأصحاب حملة "الطحينة" سوى أناس في مواقع راحة بالنسبة لشعبهم الذي في النقب أو للناس ضحايا العنف والجريمة المنظّمة، أو هكذا يعتقدون. هم مثل العرب الذين انخرطوا في مشروع "السلام الاقتصادي" أو الذين يخدمون آلة الحرب الإسرائيلية من خلال مشروع "سلام إبراهيم". هم صدى لـ"تيار" عربي و"إسلامي" في الإقليم يعتقدون أنهم مستفيدون وأن فائدتهم ستكبر. سيفوزون بكلّ شيء إذا أداروا ظهرهم لفلسطين وشعبها. هم انعكاس محليّ لتيّار في الإقليم يلهث وراء ربح ولو كان مغموسًا بدم أهل فلسطين أو السودان أو لبنان. في هذه النقطة بالتحديد عليّ أن أميّز بين هذا "التيار" الذي يعدم عزّة النفس والكرامة الشخصية والأخلاقيّة، وبين الناس التي تنتظر انفراجًا وإحقاق حقوق شعبها، لكنها منخرطة في عمل هنا أو وظيفة هناك لتعتاش وتصمد. هناك فارق جوهريّ بين الفعل الإنساني في تدبّر الحال وتحصيل الاقتدار في ظروف الأبرتهايد والاحتلال، وبين "تيار" يُريد أن يركب هذه الموجة وينخرط كلّيًا في مشاريع تستهدف الشعب الفلسطيني - في النقب أيضًا - وحقوقه وقضيّته. ولعلّ أوضح ما يدلّ على هذا الفارق هو ضلوع أصحاب هذا "التيار" في مهاجمة كلّ ما هو جامع وموحّد للقوّة السياسيّة والمعنويّة بينما الناس - عامة الناس تواصل حياتها وإنجازاتها دون أن تهاجم وتنقض وتُدير حملات انتخابيّة مغموسة بالسم ـ ليس ضد بن غفير وسموتريتش وما يمثّلان بل ضد قيادات الأحزاب العربية الأخرى. واللافت أن منصور عباس ورهطه لم يقوما منذ الانتخابات الأخيرة إلّا ببناء "خطاب" و"تبريرات" لتغطية رفضهم فكرة "القائمة المُشتركة"!

لقد عبّر شعبنا في سلسلة من استطلاعات الرأي، وآخرها ما نُشرت نتائجه بداية الأسبوع المنصرم، عن إرادته في رؤية قائمة مشتركة. كانت نسبة المؤيّدين لرؤية إطار كهذا وليس لغرض انتخابات فقط، عالية بحيث لا يُمكن لأحد مهما يبلغ من فذلكة أن يهرب منها. غالبية ساحقة ماحقة تريد أن ترى قائمة مشتركة. وهو أمر مفهوم وطبيعيّ في ظلّ المشاهد القادمة من غزّة والضفة والنقب. الناس تريد التعاضد والتضامن والوحدة كحاجة غريزية في زمن الإبادة. فقط "المجانين" كمنصور عباس يرفضون ذلك. وأنا مع الذهاب في هذا الخيار إلى آخره، لأنه سينتصر بوجود "التيار" ومنصور عباس أو بدونهما. نعم هذا الخيار الجماعيّ سينتصر من دون منصور عباس، أيضًا. فهذه الانتخابات لا تُشبه التي سبقتها وشعبنا موجود في نقطة زمنية وسياسيّة بعد النكبة الثانية.

في العام 1987 انسحب المرحوم النائب محمد وتد، عضو الكنيست عن حزب مبام لدورتيْن كاملتيْن من حزبه وانضمّ إلى "الجبهة" احتجاجًا على رفض سكرتير حزبه آنذاك، إليعيزر غرانوت، مقترحًا للتسوية والسلام قدّمه مستشار الراحل عرفات، بسام أبو شريف، بادّعاء أنه غير جدّي. وفي خطوة مماثلة قام عضو الكنيست عن حزب العمل في حينه، عبد الوهاب دراوشة استقالته من حزب العمل وأسس الحزب الدمقراطي العربي، وذلك احتجاجًا على اعتماد يتسحاق رابين وزير الأمن يومها وأحد قادة حزب العمل، سياسات قمع الانتفاضة الأولى بالحديد والنار. ما وقف وراء انحياز النائبيْن دراوشة ووتد لشعبيْهما لا يرقى أبدًا إلى منزلة الإبادة والترحيل والاقتلاع كما نشهد عليه الآن. أمّا منصور عبّاس فرغم النكبة الثانية الحاصلة الآن في النقب كما غزة والضفّة يُريد أن يجرّ مجتمعه إلى حضن الضالعين فيها، عبيدًا لا اسم لهم ولا هوية ولا انتماء.

الوحدة في ظروفنا غاية وليست وسيلة فحسب، لكن لا يُمكن لأيّ "وحدة" أن تقوم وتصمد على غشّ.