معظم النقاشات في مسألة "القائمة المشتركة" تأتي في إطار المشاركة في الانتخابات أو مقاطعتها، أو أنها تأتي في إطار البحث عن هوية المتحمّسين لها مقابل المعطّلين لفكرتها. من هنا، فإن النقاشات التي يُشارك فيها قيادات أحزاب وفاعلون هامّون - وليس هذه المرة فقط - تنحو منحًى سجاليًا يقفز فوق ما هو جوهري. فمن عادة السجالات أن تأخذ طابعًا جهويًا يضيّق دائرة النقاش، أو أنه لا يطال جوهر الموضوع، وهو في رأينا السؤال عن تمثيل الفلسطينيين في إسرائيل في هذه المرحلة. والتمثيل هنا لا ينحصر في عضوية البرلمان وعدد المقاعد الفلسطينية فيه.

لقد خبر الجيلان الأول والثاني بعد النكبة أهمية الوحدة على جلودهم وحرياتهم وحقوقهم، ومع هذا لم يستطيعوا تحقيقها. ولهذا أسبابه، ومنها أنه توفّرت لعقود شبكة أمان تجعل السياسة ممكنة وفاعلة بدون الوحدة الكاملة، علمًا بأن الجبهة كإطار هي تجسيد على نحو ما لفكرة توحيد الصفوف وتوسيع التمثيل. لقد كان هناك مركز فلسطيني قوي ومؤثر تمثّل في منظمة التحرير ومرافقها. وكان هناك مشروع وطني فلسطيني واضح المعالم، على الأقل منذ العام 1988. وفي خلفية هذا وذاك الوعد بإقامة دولتين - هذه الفكرة التي غذّت السياسة وجعلت لها إطارًا وجدوى ما في الإقليم وفي ربوعنا. وأخيرًا، كانت السياسة في إسرائيل تتطور على وقع انفتاح ولبرلة وصولًا إلى التسعينيات مع تشريع قانوني حرية الاشتغال وكرامة الإنسان وحريته. أما اغتيال رابين (تشرين الثاني 1995) فقد كان "نقطة تأسيسية" انعطفت السياسة الإسرائيلية منها إلى ما وصلنا إليه الآن. بمعنى أن الأوضاع سمحت بتعدّدية سياسية ضمن رواية فلسطينية و"قضية" انضوى الجميع - تقريبًا - تحتها وكان يقول بها. أي أن "الوحدة" كانت وحدة موقف أو توجّه عام أغنت عن الوحدة تنظيميًا. هذا هو السياق العام الذي تحركت فيه السياسة الفلسطينية في إسرائيل وعبّرت على أرضه عن هوية الفلسطينيين وتطلعاتهم.

أما وقد اختلف الشرط السياسي بشكل جذري زحفًا منذ اغتيال رابين، وقفزًا منذ قانون القومية (2018)، فإن كل اعتبارات التمثيل والانتظام السياسي بالنسبة للفلسطينيين في إسرائيل تغيّرت هي أيضًا بشكل جذري مع فقدان "شبكات الأمان" التي توفّرت للفلسطينيين في إسرائيل، خاصة في ظل عملية تفاوض واتفاقيات أوسلو وما أعقبها. وهي الفترة التي أنتجت فكرة الانتقال من المشاركة السياسية البرلمانية - السلطة التشريعية - إلى المشاركة في الائتلاف الحكومي - السلطة التنفيذية. وهي فكرة ذات إغراء كبير، خاصة لجماعة حُرمت لعقود من ذلك، بل أُقصيت وهُمّشت بشكل مُجحف.

أفهم أن بعض الفاعلين والسياسيين عندنا لا يزالون يعيشون في تلك المرحلة وفي أجواء تلك الفكرة. هذا بينما الواقع السياسي، بما فيه مفهوم الدولة والمجتمع اليهودي لنفسه، والواقع القانوني الدستوري، والخطاب السياسي برمّته، غادر تلك المرحلة غير نادم عليها. فالواقع يميني بامتياز، وصولًا إلى الإبادة في غزة. والخطاب الإسرائيلي، الذي شهد سنوات كان يستجدي فيها الفلسطينيين أن يشاركوا في انتخابات الكنيست، صار خطابًا استعماريًا مكشوفًا يسعى إلى تجريدنا من حق الترشّح والانتخاب، ويعتبرنا أعداء، ويحاول تغييبنا تمامًا كفلسطينيين من كل مكان يستطيع فيه ذلك، بما فيه الكنيست والسياسة والحيز. كانت النخب اليهودية، في إطار سياسات التحكم والاحتواء، تصنفنا على المحور بين "معتدلين" و"متطرفين"، وتعتمد ما سُمّي بـ"العصا" و"الجزرة" في تعاطيها اليومي. بينما هي اليوم من الهيمنة والغطرسة والشحن العنصري العنيف، ما يُمكنها من استعدائنا كلنا دون استثناء، والتخلص من التصنيفات آنفة الذكر، فلا فرق عندها بين فلسطيني وآخر، وبين "موحدة" و"تجمّع" و"جبهة" وعرب الأحزاب الصهيونية - كلنا عندها في الموقع ذاته، وقد أعدّت العصا للجميع دون استثناء. وهذا وحده ينبغي أن يصفع بقوة وجوه العرب الذين يعتقدون أنهم "غير"، وعلى "رأسهم ريشة"، وقد يكونوا الفريسة الأولى للشرطي والهراوة والقوانين المعدة!

في واقع كهذا - وهو يحمل سمات الواقع الاستعماري بامتياز - تكتسب مسألة تمثيل السكان الأصليين - الفلسطينيين - في مواجهة الوافد على أرضهم وحياتهم معاني مغايرة. إنها مرحلة القلق الوجودي الجدي الملموس إذا فهمنا ما الذي يحدث من إبادة في غزة، وما يحصل من ترحيل في الضفة، ومن إطلاق يد عائلات الجريمة في بلداتنا. في قلق وجودي كهذا، علينا أن نفكّر بالتمثيل المنظَّم الفاعل، ليس لخوض الانتخابات - وهذا هدف هام بذاته - بل في ما يتعدّى ذلك بكثير. أولًا، لتأكيد تعاضد الناس وتضامنها. في المحن، يكون على النخب أن تبث الوحدة وتمارسها لتشدّ من أزر الناس وترفع معنوياتهم في حياتهم اليومية، لتعزيز الثقة بالنفس وبإمكانية مواجهة المحنة بنجاح أو بأقل خسائر ممكنة. الوحدة والتنظيم النوعي على أساس الهوية هو مورد سياسي ومعنوي في منتهى الفاعلية بأيدي جماعات مثلنا - الفلسطينيين في إسرائيل. أما الثقافة، بوصفها جماعة وروح جماعة، فهي مورد أمضى فاعلية ممّا يعتقد البعض.

فإذا كان الاضطهاد والقمع يستهدفك كونك فلسطينيًا أو عربيًا أو غير يهودي، يستهدفك بوصفك أنت آخر، دون أن يدقّق في هويتك وميولك وانتمائك السياسي، إذا كان يستهدفك ويبحث عن طرق لإلحاق الأذى بك وبحقوقك كونك من أهل البلاد الأصليين - فهل يُفيد أحد منّا أن يتنكّر لهويته، لتاريخه، لشعبه، لمكانه، لحقوقه؟ كلّما تمسّكت الجماعة بهويتها وروايتها ومطالبها وحقوقها في مثل هذه الحالة، كلّما كسبت نفسها واحترام قاهرها. وكلما تذلّلت وأحنت رأسها وقبّلت يد منسّق الاحتلال وحاخاماته وطلبت الإذن منه، كلما ديست هي وحقوقها.

إن بناء التمثيل على أساس الهوية، لا على أساس الهروب منها، على أساس الرواية - السردية الفلسطينية - لا على أساس محاربتها كما يفعل البعض بيننا بدون خجل، من شأنه أن يشكّل آلية سياسية بديلة لآليات استعملناها في السابق واعتقدنا أنها نهائية لن تُسلب منّا.

اسألوا كل أعضاء الكنيست العرب عن جدوى العمل البرلماني في ظل كتلة يمينية مهيمنة ومعارضة يمينية مُذنبة، ما هي آفاق التأثير والتغيير؟ سيُجيبك أن هامش العمل تقلّص حتى يكاد التواجد في الكنيست محصورًا في الإتيان بصوت الفلسطينيين كليًا أو جزئيًا من على المنصة أو وسائل التواصل. للقول، نحن قريبون جدًا، أكثر ممّا يتخيّل معظمنا، من حالة طردنا من "جنة/جحيم" الكنيست، ومن حرماننا كأخوتنا تحت الاحتلال من حق الانتخاب والترشيح - جميعًا دون استثناء أحد - ماذا سنفعل يومها؟ أليس من الأفضل أن تكون للأطر السياسية قيادة مشتركة تجسّد نوعًا من الإرادة الجمعية، سياسيًا وفكريًا ومعنويًا، كنّا في الكنيست أو لم نكن؟ في غياب "شبكات أمان" أيا كانت، يُحتّم التفكير والعمل خارج المألوف. لكن ليس لجهة الخضوع وقبول العيش في الذل والهوان، كما يُريد بعض الأذلاء، بل لجهة معاكسة قوامها التمكّن وتطوير نوع من الاقتدار من خلال التمثيل الأوسع والأعمق في "مشتركة" أو "متابعة" أو كل شكل آخر.

إن عملية الاقتراع فعل سياسي قليل الكُلفة للأفراد. هو ليس تظاهرة قد تقمعها العساكر بالحديد والنار. من هنا، فإن السياسة العملية تقتضي أن نقوم بهذا العمل طالما هو متاح وممكن. فهو فرصة لانتخاب قيادة تُشكّل إرادة جامعة على نحو ما. والأهم أنها المرجعية التمثيلية لنحو مليوني فلسطيني يُمكنهم أن يؤثّروا كثيرًا جدًا على الواقع الذي يعيشونه، بدءًا من تكثيف حضورهم في البرلمان كساحة من ساحات السياسة، ويقوّي حضورهم أكثر خارج البرلمان مقابل المجتمع الإسرائيلي والمحافل الدولية. هذا ناهيك عن فضائل مثل هذا الفعل المعنوية بالنسبة للناس التي تؤكّد منذ أربعين عامًا، وفي كل استطلاع، رغبتها في رؤية الوحدة تتجسّد في قائمة موحدة كبيرة وقوية. أما البحث في إجابات الناس على أسئلة الاستطلاعات، فسيكشف أن هذه الإرادة تعكس توقًا إلى التعاضد والتضامن وشد الأزر ذاتيًا وتعزيز القدرات، أكثر من حضور باهر لنائب فلسطيني في الكنيست. التمثيل الواسع - كمّيًا - هو في جوهره تمثيل معنوي وجوهري - نوعي.