كثيرًا ما نقرأ أو نسمع مقولة: "الديمقراطية ليست لنا، ولا تليق بنا، نحن العرب، وأنه لن ينجح في حكم العرب سوى دكتاتور"، ويتحدث البعض عن "الدكتاتور العادل".

يُعلّل أصحاب هذا التفكير أن العرب ينتمون إلى حمائل وعشائر وقبائل وعصبيّات من شتى الألوان، تجتمع على الخير وعلى الشر، في مواجهة العصبيات الأخرى، ولا يمكن ممارسة الديمقراطية أمام جموع ترفض المختلف، حتى ولو كان الأفضل، فالخيار هو لابن العشيرة أولًا.

هنالك هندسة رأي عام مستمرة منذ عقود، تُصرّ على أن العرب غير قادرين على العيش في نهج ديمقراطي، وأن هذا النظام دخيل على العرب ولا يلائمهم. وتسأل: ما هو البديل؟ هل النظام الملكي أفضل؟ وأيّ نوع من النظام الملكي؟ وهل الملوك كلهم سواء؟

أم الجمهوري هو الأفضل؟ الجمهوري الذي رأينا كيف تحوّل إلى ملكي، وصار يُخطّط لتوريث أحد أبنائه للرئاسة من بعده، مثل مبارك، وصدام، وحافظ الأسد، وعلي صالح، والقذافي، إلى أن انفجر "الربيع العربي"، الذي بدأ من تونس، وتمكن شعبها من البدء بمسيرة ديمقراطية عام 2011 بعد هروب بن علي.

في العام 2014 أُقرّ في تونس دستورٌ ديمقراطي يضمن الحريات ويفصل السلطات، إلا أن قيس بن سعيد عاد إلى الممارسات الدكتاتورية إياها عام 2021، وقمع معارضيه.

هل حُكم العسكر هو الأفضل؟ حيث ينقلب أحد الضباط على النظام، ويُشكّل مجلس ثورة وينصّب نفسه رئيسًا انتقاليًا، ثم لا يلبث أن يُمدّد فترة رئاسته، يقمع خلالها المعارضين ويُعدم رفاق الأمس كما في نظام السيسي، ولا يلبث أن يفرض على مجلس الشعب حقّه في ولاية ثالثة ورابعة، ثم إلى مدى الحياة!

التجربة التاريخية تُظهر أن أيّ شعب، في أي مكان، لم يُولد ديمقراطيًا بطبعه، بل بُنيت الديمقراطية عبر صراعات طويلة، ومراحل من التعلّم والخطأ والإصلاح، بدأت منذ أثينا القديمة، ومرّت عند العرب بعد الإسلام من خلال الشورى، إلى أن جاء معاوية بن أبي سفيان ليُورّث ابنه يزيد، ويُعيد الملكية بعد عقود من شورى شبه ديمقراطية، ولكن تحت مسمّى "إمارة المؤمنين".

عاشت أوروبا قرونًا من الحروب الأهلية والاستبداد والإقطاع، قبل أن تستقر على الديمقراطية التي نراها اليوم. وسُفكت دماء عشرات الملايين من الأوروبيين في حروب أهلية على السلطة.

الثورة الفرنسية عام 1789 أعلنت حقوق الإنسان، وفي العام 1792 أُلغيت الملكية وأُعلنت الجمهورية الفرنسية الأولى. وشهدت البلاد حالة فوضى سياسية، وانقلب نابليون عام 1799 على الجمهورية واستلم الحكم دكتاتورًا، وبدأ غزوات كلّفت ملايين القتلى في أوروبا وخارجها.

عاشت فرنسا انقلابات وقلاقل، من جمهورية إلى إمبراطورية إلى ملكية مرّة أخرى، ثم جمهورية، وبدأ الاستقرار النسبي فيها عام 1870. وبحلول عام 1914 كانت فرنسا تستعمر 11 مليون كيلومتر مربع عبر العالم، وتسيطر على أكثر من 60 مليون إنسان في المستعمرات، تستغل سكانها وتقمعهم بوحشية. و"الجمهورية الخامسة" هو النظام الحالي الذي أرساه شارل ديغول عام 1958.

وفي إسبانيا، قُتل وجُرح حوالي مليون إنسان في الحرب الأهلية من 1936 إلى 1939 بين الجمهوريين والدكتاتور فرانكو، الذي انتصر على الجمهوريين بدعم من ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، ثم بدأ بالانتقام من مئات الآلاف من الإسبان، وظل دكتاتورًا مستبدًا حتى عام 1975، حيث أُعلنت إسبانيا "ملكية دستورية برلمانية"، لا يستطيع الملك أن يتدخل في السياسة بشكل مستقل.

كما شهدت أمريكا اللاتينية انقلابات ودكتاتوريات عميلة للاستعمار، وثورات، وسفك دماء، قبل أن تتطوّر إلى أنظمة مدنية رئاسية تتفاوت في ديمقراطيتها بين واحدة وأخرى.

وفي تشيلي، انقلب بينوشيه على الرئيس المنتخب سلفادور إيندي، وقُتل الآلاف، وسُجن حوالي 300 ألف إنسان بين 1973 إلى 1990.

الصراعات في الشرق الأقصى، والحروب الأهلية على السلطة في: الصين، اليابان، كوريا، فيتنام، أودت بحياة ملايين البشر.

إذن، ليست المسألة "جينات" أو "عادات عربية"، كما يُصرّ البعض على إقناع نفسه والآخرين، بل هي بنية سياسية واقتصادية ومؤسساتية يمكن تطويرها بمرور الزمن.

صحيح أن البنية القبلية أو العشائرية قد تؤثر على طريقة ممارسة السياسة، لأنها تقوم على الولاءات الشخصية أكثر من الولاءات المؤسسية، لكن هذا لا يعني استحالة الديمقراطية عند العرب، بل يعني أنها تحتاج تصميمًا خاصًا يناسب البيئة الاجتماعية في كلّ قطر عربي أو غير عربي.

بمعنى آخر، ليس مطلوبًا نسخ النموذج الغربي للديمقراطية بحذافيره، بل ابتكار نموذجٍ يناسب المجتمعات العربية وخصوصية كلّ واحدة منها.

القول بأن "العرب لا يصلح لهم إلا دكتاتور" هو تبسيط خطير وتعبير عن حالة الإحباط. ربما يُحقّق الحاكم المستبد نوعًا من "الاستقرار السطحي"، لكنه مؤقّت، ويمنع تطوّر المؤسسات السياسية، ويسيطر عليها ويحوّلها إلى أدواتٍ لخدمته، ويُسبّب احتقانًا مجتمعيًا ينفجر عاجلًا أم آجلًا، ويجعل الدولة مرتبطة بشخص واحد، هو سيادته، الذي عادةً ما يُصاب بجنون العظمة.

كلّ التجارب التاريخية تؤكّد أن الاستقرار الحقيقي لا يُبنى إلا على المشاركة والمساءلة، أي على جوهر الديمقراطية.

العرب لا يختلفون عن غيرهم، والقضية قضية وقت، وسوف تملك الشعوب العربية حرّيتها، وتمارس حقوقها الإنسانية رغم أنف الطغاة بجميع أصنافهم وتسمياتهم.