
صدى نيوز - وصف محافظ مصرف سورية المركزي عبد القادر حصرية زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع إلى واشنطن ولقائه بنظيره الأميركي بـ"التاريخية"، معتبراً أن "جدار برلين في الشرق الأوسط سقط"، وأن البلاد تدخل "حقبة اقتصادية ومالية جديدة"، مؤكداً على وجود رغبة أميركية كبيرة بالاستثمار في سوريا.
حصرية أشار في مقابلة مع إلى أن العلاقات مع الولايات المتحدة ستنعكس حكماً على اقتصاد سوريا وتفتح الباب على فرص اقتصادية واستثمارية جديدة، ولكنه لفت في السياق ذاته إلى أنها لن تكون "على حساب العلاقات مع دول أخرى"، مشدداً على أن "سوريا منفتحة على مختلف الدول".
وتطرق محافظ المركزي أيضاً إلى خطوات تطوير القطاع المالي في البلاد، مؤكداً أن البلاد تستهدف مضاعفة عدد المصارف العاملة فيها، وأن تصبح "مركزاً إقليمياً للتمويل الإسلامي"، في حين شدد على أن احتياطي الذهب لن يمس.
"جدار برلين سقط"
حصرية وصف زيارة الشرع إلى البيت الأبيض بـ"الحدث التاريخي"، معلقاً: "الآن تعود عقارب الساعة إلى ما قبل عام 1958 عندما دخلت سوريا في النظام الاشتراكي وفي التحالف الشرقي آنذاك، الذي حمل لها البؤس اقتصادياً... وأصبح على أثرها 90% من الشعب السوري تحت خط الفقر".
وقال إنها "حدث تاريخي في سوريا، أعقب تطوراً سياسياً جرى قبل أقل من عشرة شهور (في إشارة إلى سقوط نظام بشار الأسد)، يأتي في الأهمية برأيي بعد سقوط جدار برلين. اليوم في الشرق الأوسط يسقط جدار برلين". وأضاف أن بلاده تدخل "حقبة اقتصادية ومالية جديدة"، مؤكداً أن العلاقات السياسية مع الولايات المتحدة الأميركية التي تعتبر أكبر اقتصاد في العالم، "ستنعكس على واقع الاقتصاد"، و"تفتح الباب أمام فرص ومشاريع جديدة، حيث يجري ذلك بعيداً عن المساعدات لتمويل عجز الموازنة، أو تأمين ثمن القمح".
تصريحات حصرية التي لمحت إلى سقوط جدار برلين، وهي لحظة مفصلية ينظر إليها على أنها بداية سقوط معسكر الشيوعية بقيادة الاتحاد السوفييتي أمام الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها خلال الحرب الباردة، تتشابه مع أخرى قالها الشرع عند سقوط نظام بشار الأسد، إذ أكد في 30 ديسمبر أن سوريا تبحث عن مسار اقتصادي حديث خارج إطار الاشتراكية في مرحلة بناء الدولة.
وبين حصرية أن العلاقات الاقتصادية والمالية مع الولايات المتحدة "ليست على حساب العلاقات مع دول أخرى، وإنما سوريا منفتحة على مختلف الدول، وعلى الاستفادة من موارد سوريا البشرية، وانتشار مواطنيها في العديد من الدول".
رغبة أميركية بالاستثمار
حصرية نبه إلى أن أكثر من 22 شركة أميركية مثل "فيزا"، "ماستر كارد"، أبوت"، هاليبرتون" وغيرها من الشركات العاملة في القطاع النفطي، أعربت عن اهتمامها بدخول السوق السورية.
هذه التصريحات ليست الدليل الوحيد على اهتمام الشركات العالمية وخصوصاً الأميركية في السوق السورية، إذ كشف الشرع في سبتمبر الماضي، أن الولايات المتحدة تبدي "رغبةً كبيرةً في الاستثمار في سوريا"، مشيراً إلى أن بلاده تمتلك موقعاً استراتيجياً بالغ الأهمية يجعلها محوراً لطرق التجارة البرية بين الشرق والغرب، في وقت أكد خلال زيارته إلى واشنطن إلى أن بلاده تريد جلب استثمارات أميركية إلى البلاد.
ظهر هذا الاهتمام أيضاً من خلال المحادثات التي تجريها هذه الشركات في سوريا، فخلال الأسابيع القليلة الماضية، عقدت وزارة الطاقة السورية لقاءات مع العديد من الشركات مثل "إس إل بي"، و"هاليبرتون"، و"بيكر هيوز"، و"هنتنغ إنرجي" الأميركية، بالإضافة إلى شركات أخرى مثل "غلف ساند بتروليوم"، و"شيفرون"، و"بي بي"، و"توتال إنرجيز"، و"شل".
حصرية لفت في هذا السياق إلى أن الشركات الأميركية يمكن أن تشارك في عمليات إعمار البنية التحتية، فضلاً عن مجالات أخرى مثل الغاز والنفط، وقطاع النقل، وغيرها، مؤكداً أن "سوريا تطمح لأن تكون العلاقات مع الشركات بشكل مباشر، بعيداً عن الوكلاء أو الوسطاء".
ولفت إلى وجود "بنى تحتية لفرص استثمارية كبيرة خصوصاً في القطاع المالي"، داعياً إلى "ضرورة ترجمتها من قبل العاملين في المجال الاقتصادي إلى فرص عمل".
وأشار إلى أن البلاد أمام عهد جديد، ولدى الحكومة "خطط طموحة"، معتبراً أن زيارة الرئيس إلى واشنطن "ستعطي المناخ السياسي اللازم" للدفع بهذه الاستثمارات إلى البلاد.
علاقة مباشرة بين دمشق وواشنطن للمرة الأولى
أكد محافظ المركزي أنه للمرة الأولى "نشهد علاقة مباشرة بين سوريا والولايات المتحدة الأميركية، بعدما كانت لفترة طويلة إما صعبة، أو محفوفة بالمخاطر، أو مرتبطة باستلام إنذارات لسوريا"، وتابع أن "العلاقة الاستراتيجية تكون ذات أهداف، وقائمة على تكوين رؤى مشتركة".
وكان الرئيس السوري قال في مقابلة مع "الشرق" إن "هناك علاقات استراتيجية كثيرة بين سوريا والولايات المتحدة"، لافتاً إلى أن "سوريا موقعها حساس، والآن بدأت تأخذ دورها الإقليمي والعالمي، ومن مصلحة كثير من الدول أن تكون لها علاقات استراتيجية مع سوريا، وكذلك، من مصلحة سوريا أن تكون لها علاقات استراتيجية مع بقية الدول".
حصرية لفت إلى أن "حجم الاقتصاد السوري، والتموضع الجغرافي للبلاد، يجعلانها تشكل بعداً استراتيجياً، إلى جانب أنها منذ استقلت وحتى الآن، لم تأخذ الوزن الاقتصادي الاستراتيجي الذي يتناسب مع حجمها وإمكانياتها"، مشيراً إلى ضرورة "الاستفادة من هذا الانفتاح السياسي من خلال رفع مستوى الأداء على صعيد القطاع المالي، بما يتناسب مع هذه العلاقة التي تبنى وبسرعة كبيرة".
قانون "قيصر" والعقوبات
من المقرر أن يلتقي الشرع خلال زيارته إلى واشنطن بالرئيس الأميركي دونالد ترمب، بالإضافة إلى مسؤولين من الكونغرس. ويتصدر ملف "قانون قيصر" المباحثات، خصوصاً بعدما رفعت غالبية العقوبات الأخرى التي كانت مفروضة على سوريا.
والجمعة، قال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، إن إدارة ترمب تدعم إلغاء العقوبات المفروضة على سوريا بموجب "قانون قيصر"، من خلال مشروع قانون تفويض الدفاع الوطني الذي يناقشه المشرعون الأميركيون.
ويعد "قانون قيصر" الذي فرض عام 2019، أحد أكثر القوانين المفروضة على دمشق صرامة، إذ يمنع أي دولة أو كيان من التعامل مع الحكومة السورية أو دعمها مالياً أو اقتصادياً.
حصرية أوضح أن الزيارة "بمثابة دفعة للخطوة الأخيرة لرفع العقوبات على سوريا" المتمثلة في إلغاء "قانون قيصر"، والذي يشكل عقبة كبيرة، ويخيف المستثمرين في المؤسسات المالية.
وأضاف أن العقوبات المفروضة على سوريا "أزيلت عملياً"، ولم يتبق سوى هذا القانون، ولكنه أشار في الوقت ذاته إلى أن عملية البناء تحتاج إلى بناء علاقات مع بنوك المراسلة.
وقد تمثل هذه الزيارة فرصة لعقد اجتماعات مع البنوك الأميركية لإعادة فتح حسابات البنك المركزي، والتي "تعتبر الخطوة الأهم على صعيد القطاع المالي، بالتالي الزيارة ستساهم بتسهيل المهمة الفنية للمصرف بهذا الشأن"، وفق حصرية.
ونوّه حصرية إلى أن نظام "سويفت" أصبح فاعلاً في سوريا، وخلال الفترة القادمة سيتم تشغيله مع البنوك الأخرى، حيث "شكل المصرف المركزي فريقاً لتحديد الدول التي تحتاج سوريا لفتح حسابات بنوك مراسلة بها، لتستخدم في إدارة الاحتياطيات".
وأوضح أن هناك فرقاً بين نظام "السويفت"، وإمكانية التحويل، فـ"السويفت" هو نظام تراسل مرتبط بإقامة علاقات مصرفية مع المصارف المراسلة، وهو ما تعمل عليه الحكومة، مؤكداً أن عملية التحويل "مرتبطة ببناء الثقة مع هذه البنوك، ومدى الالتزام في سوريا بمكافحة غسل الأموال"، وهو ما تعمل عليه الحكومة أيضاً.
وذكر أنه خلال الشهر الجاري سيشارك المركزي بمؤتمر للمصارف الألمانية في إسطنبول، وآخر يضم المصارف الأردنية، بالإضافة إلى زيارة إلى كندا، وجميعها مرتبطة بـ"إقامة علاقات مصرفية بين سوريا والعالم الخارجي، إلى جانب العمل مع المصرف المركزي في تركيا، والبنك المركزي السعودي، وفتح حساب في المصرف المركزي الإماراتي".
30 مصرفاً بحلول 2030
تطرقت المقابلة أيضاً إلى التطورات المالية الداخلية، إذ أكد حصرية أن البلاد تستهدف مضاعفة عدد البنوك العاملة بحلول 2030. وقال حصرية إن المركزي ينفذ خطة متكاملة لتطوير القطاع المالي والمصرفي تقوم على ثلاثة أدوار رئيسية.
يتمثل الدور الأول في "توفير مؤسسات مالية استثمارية، حيث أصدر المصرف المركزي التعليمات التنفيذية لترخيص المصارف الاستثمارية، وبدأ بالفعل حواراً مع عدد من البنوك والمستثمرين الراغبين في الحصول على تراخيص لتأسيس هذه المصارف الجديدة".
أما الدور الثاني فيتعلق بـ"إصلاح القطاع المصرفي وإعادة تأهيل المصارف القائمة، تمهيداً للانتقال إلى مرحلة ترخيص مصارف جديدة"، مشيراً إلى أن "الرؤية المستقبلية تستهدف الوصول بعدد المصارف العاملة إلى 30 مصرفاً بحلول عام 2030".
وفي ما يخص الدور الثالث، أوضح حصرية أن المركزي "أقرّ ورقة سياسة عامة لتأسيس مركز تميّز للصيرفة الإسلامية، هدفه تطوير حلول تمويلية للمصارف الإسلامية في مجالات تمويل البنية التحتية والمشروعات الصغيرة والمتوسطة والإسكان، إلى جانب تطوير أدوات تمويل تدعم السياسة النقدية".
وبيّن أن المصارف الإسلامية في سوريا تستخدم منتجين أو ثلاثة فقط من أصل أكثر من سبعة منتجات معروفة عالمياً، معتبراً أن ذلك يمثل "فرصة كبيرة لتوسيع نطاق العمل المصرفي الإسلامي".
وأشار حصرية إلى أن البلاد تطمح لأن تكون "مركزاً إقليمياً" للتمويل الإسلامي إلى جانب دول الخليج وماليزيا، ما "يتطلب البحث عن حلول تمويلية متطورة، وتوفير السيولة للقطاع المصرفي، مع السعي لتقديم بدائل تمويل إسلامية بجانب الأدوات التقليدية المعتمدة على الفائدة".
وأضاف أن التعاون مستمر مع وزارة المالية وهيئة الأوراق والأسواق المالية لتطوير أدوات تمويل حديثة، منها إصدار الصكوك الإسلامية لتمويل الموازنة العامة وتغطية احتياجات السيولة في السوق، مشيراً إلى أن هذا العمل يتطلب إطاراً قانونياً ومؤسساتياً يتم التحضير له حالياً بالتنسيق مع وزير المالية.
تفاصيل الانكشاف على المصارف اللبنانية
في أكتوبر الماضي، أمهل مصرف سورية المركزي المصارف التجارية ستة أشهر لتغطية خسائرها الناتجة عن الانهيار المالي في لبنان، وتقديم خطط إعادة هيكلة موثوقة، في خطوة من شأنها إعادة تشكيل القطاع المصرفي السوري المتداعي.
وشدّد حصرية في مقابلته مع "الشرق" إلى أن "الإجراء لا يخص المصارف اللبنانية أو غيرها من الدول، بل يهدف إلى تعزيز متانة القطاع المصرفي السوري"، مشيراً إلى عدم وجود مصارف لبنانية في سوريا.
وتابع أن المركزي طلب من البنوك الخاصة "الإفصاح عن انكشافها على الدول ذات التصنيفات الائتمانية مرتفعة المخاطر، واتخاذ المخصصات المحاسبية اللازمة لذلك، بما في ذلك الديون المصنفة ضمن المرحلة الثالثة، بنسبة مخصصات 100%".
وأشار حصرية إلى أن المركزي راضٍ عن مستوى التزام المصارف بقراراته وتعاونها في تقديم برامج لإعادة الهيكلة عند الحاجة، مؤكّداً أن الهدف الأساسي هو ترسيخ الثقة بالقطاع المصرفي السوري، لأن "القطاع المالي لا يقوم على العملة بل على الثقة".
كما كشف أن المصرف المركزي يعمل حالياً على إعداد خطة لرفع القيود عن السيولة سيُعلن عنها قريباً، مشدداً على أن استعادة ثقة المتعاملين والمستثمرين تمثّل أولوية مطلقة.
استثمار احتياطي الذهب
أكد محافظ مصرف سورية المركزي أن الذهب الموجود لدى المصرف ليس احتياطياً قابلاً للاستثمار، بل هو احتياطي أساسي للعملة الوطنية، ورمز للسيادة الاقتصادية، معرباً عن تطلع البلاد إلى زيادة احتياطيات الذهب.
وأوضح أن أي عملة يجب أن تكون مدعومة باحتياطي ذهبي، مشيراً إلى أن الاحتياطي يشكّل دعامة للاستقرار النقدي، كما أنه "إرث وطني ثمين حافظت عليه الأجيال السابقة".
وأضاف أن قوة الاقتصاد السوري لا تعتمد فقط على الذهب، بل على موارده المتنوعة من بشرية وزراعية وصناعية وسياحية، معتبراً أن هذه الإمكانات "أهم من الذهب بكثير".
وختم بالتأكيد على أن دور المصرف المركزي يتركّز على حماية استقرار العملة الوطنية وضبط معدلات التضخم ضمن الحدود المستهدفة، وهو ما يُعدّ الأساس لأي بيئة استثمارية مستقرة.
انضباط مالي في سوريا لأول منذ سبعين عاماً
حصرية أشاد بـ"الانضباط المالي" الذي تشهده سورية للمرة الأولى منذ نحو سبعين عاماً، موضحاً أن المركزي لم يقم بإقراض وزارة المالية أي مبلغ، وأن التمويل يتم فقط عبر الوسائل السليمة مثل السندات والصكوك المطروحة في الأسواق المالية، والبالغ حجمها حالياً نحو 720 مليار ليرة سورية كسندات.
وبيّن أن المصرف المركزي يعمل على تنشيط حركة هذه السندات، وتأمين السيولة اللازمة للقطاع المصرفي في إطار الاستراتيجية الوطنية 2026 - 2030، التي تقوم على خمس ركائز أساسية وتتضمن 52 مبادرة، من بينها تنظيم التعامل بالعملات المشفرة، بوصفها واقعاً لا بد من تنظيمه في المستقبل القريب.
مراحل متقدمة في عملية استبدال العملة
كشف حصرية أن المصرف في مراحل متقدمة من إصدار العملة الجديدة، لافتاً إلى أن لجنة التبديل أنهت تقريرها النهائي وتوصياتها تمهيداً لاعتمادها، وأن العملية يجري التحضير لها من خلال لجنة وزارية موسعة تضم ممثلين عن وزارات الداخلية والمالية والاقتصاد والأوقاف، إضافة إلى جمعية المحاسبين القانونيين واتحادي غرف الصناعة والتجارة، لضمان مشاركة جميع أصحاب المصلحة.
وأوضح أن تحديد موعد إطلاق العملة الجديدة سيتم بعد اكتمال جميع التحضيرات اللوجستية، ولا سيما أن هناك 14 مليار قطعة نقدية متداولة، مؤكداً أن المصرف المركزي يعتمد نهج الشفافية والتواصل المباشر مع المواطنين، وأن "عصر الصمت والغموض في السياسة النقدية قد انتهى".
وختم حصرية حديثه بالتأكيد على أن سوريا اليوم تشهد مرحلة استقرار اقتصادي واجتماعي ونقدي ومالي غير مسبوقة، بفضل التعاون بين مؤسسات الدولة والقيادة السياسية، مشيراً إلى أن ما تحقق في عام واحد بعد النزاع، وفي ظل العقوبات، يُعد إنجازاً استثنائياً بكل المقاييس، لافتاً إلى أن الأرقام التي ستصدر بنهاية العام ستعكس هذا الواقع من خلال ارتفاع معدلات الاستيراد، وتزايد المشاريع الاستثمارية، والنشاط الاقتصادي العام.