لا أدري كيف تأخرت حتى قررت ان افتح البوم الصور الذي اقتنصته من بقايا بيتي المقصوف قبل عامين، كيف جاء الوقت لكي أفتحه وأتصفح الصور القديمة التي رُصّت فيه والتي تكاد ملامح أصحابها لا تظهر بسبب قدمها، لكن اللحظة قد جاءت هكذا حين وصلت ابنة عمي لزيارة القاهرة والتقيت بها وبدأنا نتحدث عن ذكرياتنا المشتركة، وما أجمل ان تجد شخصا تشترك معه بذكريات كثيرة وقد وصلت إلى هذا العمر، وكنت أتمنى لو طال الوقت ولم يأت الليل لكي نستعيد الذكريات، كنت أتمنى لو امتد النهار حتى آخر أنفاسي في هذه الحياة لكي نتحدث عن البلاد والأجداد والآباء كأني لا أملك غيرهم ولا أحب سواهم.

يومَ قُصفت البناية التي اقطنها في وسط مدينة غزة وكنت أحاول ان استل بعض الأشياء من بين الركام لمحت جاروراً قد افرغ ما في جوفه عنوة بسبب تعرض الخزانة لضربة قاسية حتى مالت ولم تلامس الأرض، لكن الجارور كان في حالة لا استطيع معها ان افرغه كلياً وبالكاد استطعت ان استل منه ألبوماً واحداً من مجموعة من ألبومات الصور، وقد كنت افعل ذلك فيما كان اولادي يصرخون بي ان أسرع لكي نهرب نحو جنوب القطاع كما طلب منا، ولأنهم يعرفون ان دأب الاحتلال هو معاودة قصف المكان الذي قصف في المرة الأولى.

هكذا كنت اضم الألبوم إلى صدري ثم أخفيه تحت كتفي بقوة وأجمع بين يدي ما استطعت من ملابس وأدوات صغيرة اكتشفت لاحقاً انها غير ذات جدوى وقد تركت اشيائي المهمة خلفي مثل علبة دواء اصبح شحيحاً مع مرور أيام قليلة على الحرب، ولكني شعرت براحة لأني استطعت إنقاذ هذا الألبوم ولم أتذكر ان افتحه، وكأنني أدخر مبلغاً او ثروة، وكنت اطمئن إلى وجودها في المكان الأمين الذي أخفيتها فيه، فيما انني لم اقرر ان افتحه حتى جاءت ابنة عمي، وفوجئت مثلها تماماً بالصور القديمة التي كان يحتفظ بها أبي والتي نسيتها ورأيتها وكأن ذلك يحدث للمرة الأولى.

تذكرت اني كنت أصنف الصور وأضع كل مجموعة في ألبوم خاص، مثل صور طفولة أولادي وصور طفولتي في المخيم مع كل من عرفهم وجاورهم أبي، وصور حفل زفافي المتواضع إبان انتفاضة الحجارة في العام 1991 وأخيراً صور أولادي حين أصبحوا في سن المراهقة والشباب وتظهر هذه الصور أماكن جميلة على شاطئ بحر غزة.

هكذا كان ألبوم الصور يحتوي مجموعة من صور ذكريات ابي وكأن الحظ قرر ان يجاملني لأنه يعرف مقدار حبي له ولأن الأيام الجميلة التي عشناها في مخيم اللاجئين جنوب قطاع غزة هي الأيام المشتركة لي ولابنة عمي، وحيث تجاورت عائلة أبوينا مع عائلة زوجة عمي، وجمع المخيم بكل طقوسه بين تلك العائلات واختتمت العلاقة الطيبة والمحبة بالنسب والمصاهرة، وهكذا كانت ابنة عمي تصرخ في فرح ولهفة حين رأت صورة قديمة لجدتها وخالها.

هكذا اكتشف ان الصور هي آخر ما تبقى لنا بعد ان فقدنا كل شيء وبعد ان ابتلعتنا الغربة، وحيث أصبحت الذكريات صوراً في الذاكرة ولا أرى منها بقايا مثلما كان يحدث حين كنت في غزة، وحيث كنت احرص على السير في ازقة مخيم خان يونس رغم ان معظمها قد تغيرت ملامحها، وحلت البيوت المبنية من عدة طوابق بدلاً من البيوت التي كانت ذات سقوف من القرميد او شرائح الأسمنت، لكن تلك الجولة كانت تضعني في لقاءات حية مع الماضي والذكريات وأنا أتخيل أيام طفولتي الأولى، وحيث كانت تجلس جدتي البدينة الطيبة أمام باب بيتنا وتجتمع حولها الجارات، وفيما نلهو حولها وتربط ساق أخي الأصغر بحبل من بقايا قماش ثوبها لكي تجذبه كلما ابتعد عنها لأنها لا تستطيع ان تركض خلفه.

هنا اكتشف ان علي ان أتبادل تحية صباحية مع من تبقى لي من أقارب ابتلعتهم الغربة قبلي لكي أعيش الذكريات التي تمنحني الحياة فعلاً لأن الحياة هي الحياة في بلدك وتحت سمائه وفوق أرضه وغير ذلك فأنت بقايا لا تعرف جمعها أبداً.