
تصادف في مثل هذه الأيام الذكرى السنوية الـ30 لمقتل رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق يتسحاق رابين (4 نوفمبر/ تشرين الثاني 1995). ومثلما سبق أن أكد كاتب هذه السطور مرّات كثيرة، فمنذ أعوام عديدة لم يعد الصوت الأعلى، في غمرة إحياء هذه الذكرى، لمن يدّعون أن هذا الاغتيال تسبّب أيضًا بقتل السلام مع الفلسطينيين، لكون الرجل تطلّع إليه، أولًا وقبل أي شيء، وباتت الكفّة راجحة لصالح أصواتٍ تؤكّد، من ضمن أمور أخرى، أنه لم يكن رجل سلام بتاتًا، وأن "اتفاق أوسلو" مع منظمة التحرير الفلسطينية استهدف بالأساس الدفع بمصالح إسرائيل الأمنية الإقليمية، وفي هذا الشأن تحديدًا، يُعتبر ورثته من رؤساء الحكومة في دولة الاحتلال، ولا سيما بنيامين نتنياهو، بمثابة مكمّلين طريقه. وهذا التقييم غير منحصر في خصوم رابين السياسيين، بل يشمل بعض أقرب من كانوا محيطين به، خصوصًا من فئة المستشارين.
فضلًا عن هذا التقييم، كان ثمة تشديد على مسألتين: الأولى، أن رابين عندما اعتمد مسار أوسلو كانت لديه خطة استراتيجية تتغيّا الحفاظ على أمن إسرائيل "دولة يهودية" و"ذات حدود يمكن الدفاع عنها"، من دون أي استراتيجية تتعلق بالسلام، ورأى في ياسر عرفات بمثابة شريك في قمع المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، وبمفهومٍ ما اعتبره سيقبل بالتنازل في المستقبل عن القدس وحق العودة للاجئين وخطوط 1967 وعن المستوطنات في "الكتل الكبرى"، وإلّا "فسيظل حاكمًا لرام الله فقط!".
الثانية، أن رابين كان أول من استشرف ما بات يُعرف باسم "الخطر الإيراني"، المتمثل بسعي طهران لامتلاك قدرة نووية والهيمنة الإقليمية. وفي ضوء ذلك، رأى ضرورة عقد اتفاقيات تطبيع مع مزيد من دول المواجهة في أعقاب اتفاقية السلام مع مصر المبرمة في نهاية سبعينيات القرن الفائت، ومع ما تُسمى "دول الطوق الثاني"، وفقًا لعقيدة ديفيد بن غوريون، في ظل تطوّرات عالمية غير مسبوقة، أبرزها انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. ويشير القائلون بهذه الخصيصة إلى أن رابين كان مدركًا، في قرارة نفسه، أن مثل هذه الاتفاقيات لا يمكن بلوغها إلا إثر سلوك طريق التسوية مع الفلسطينيين، وهو ما حدث فعلًا، حيث تأدّى عن اتفاقيات أوسلو إبرام اتفاقية السلام مع الأردن، وانطلاق المفاوضات الإسرائيلية-السورية. وفي سياق متصل، يشير هؤلاء إلى أن رابين لو كان لا يزال حيًّا، لكان من أشد مؤيدي "اتفاقيات أبراهام"، على الرغم من أنها لم تُبرم بموجب المسار نفسه الذي عُرف باسم "فلسطين أولًا"، في إشارة بليغة إلى ما حدث من تغيّرات دراماتيكية على الموقف العربي الرسمي نفسه.
وينطوي هذا التقييم، في الوقت نفسه، على ما جسّده رابين من مواقف ومقاربات في ما يخص عملية السلام الإسرائيلية- الفلسطينية، فقد تطلع إلى أن يعقد سلامًا مع الفلسطينيين وفقًا للشروط الإسرائيلية، وسار في الظاهر وراء شعار "السلام الآن"، بل يمكن القول إن هذا الشعار وصل إلى ذروته إبّان ولايته بعد رفعه أول مرّة عقب معاهدة السلام مع مصر. ومنذ ذلك الوقت، انتقل هذا الشعار بين ثلاثة نماذج، يستند كل واحد منها إلى تحليلٍ مختلفٍ للوضع في منطقة الشرق الأوسط، ويعتمد على فرضيات أساسية خاصة به إزاء ما يمكن وما لا يمكن عمله في سبيل تغيير واقع الحياة في البلد. وبدأ نموذج "السلام الآن" بالانتهاء لدى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في عام 2000. والنموذج الثاني هو "السلام لاحقًا"، وترسّخ إلى حد كبير في عام 2003، عندما أعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق، أرييل شارون، ما عرف باسم "خطة الانفصال" عن قطاع غزّة، وبعض أجزاء من الضفة الغربية، وانتهى لدى صعود نتنياهو إلى سدّة الحكم في عام 2009. أمّا النموذج الثالث، فهو "لا سلام أبداً"، وبدأ في ذلك العام، وما زال الإطار الفكري المسيطر في السياسة الإسرائيلية.