خاص صدى نيوز: أثار قرار الرئيس محمود عباس بإصدار القانون رقم (20) لسنة 2025، والذي يتضمن تعديلات جوهرية على قانون الدين العام رقم (24) لسنة 2005، موجة من الجدل الواسع في الأوساط المجتمعية، لا سيما بين الخبراء والمختصين. فقد رأى بعضهم أن هذه التعديلات تواكب التطورات المالية الحديثة، وتُعيد تعريف الدين العام ليشمل كافة الالتزامات المترتبة على وزارة المالية، بما يتيح للسلطة إعادة هيكلة ديونها تمهيدًا لتنظيم سدادها. في المقابل، عبّر آخرون عن رفضهم لهذه التعديلات، معتبرين أنها قد تفتح المجال أمام الحكومة للجوء إلى الاقتراض كوسيلة لمعالجة الديون، مما يفاقم الأزمة بدلا من حلها.

الديون أولا ثم الرواتب والخدمات؟

يقول الخبير الاقتصادي د. سعيد صبري في حديث مع "صدى نيوز" إن هذا القانون لا يُقرأ فقط بالأرقام، بل بميزان الأثر على حياة الناس. فبينما تسعى الحكومة إلى الانضباط المالي، يشعر المواطن – خصوصًا الموظف – أنه الحلقة الأضعف في معادلة لا ترحم.

ويضيف "القانون الجديد ألغى مفهوم (صندوق الوفاء) القديم الذي ظلّ حبرا على ورق، واستبدله بـ(حساب الوفاء) داخل وزارة المالية، تُحوَّل إليه الأموال دوريًا لتسديد أصل الدين وفوائده، ويُمنع استخدامها لأي غرض آخر"، مشيراً إلى أن هذه المادة تُحدث ثورة في إدارة المال العام، فهي تضع مصلحة الدائنين أولًا، وتحوّل سداد الدين إلى التزام قانوني واجب التنفيذ حتى قبل دفع الرواتب.

من الناحية الاقتصادية، يرى سعيد أن هذه الخطوة تعزّز ثقة البنوك والمستثمرين، لكنها تُضيّق الخناق على النفقات التشغيلية، وقد تعني عمليًا أن موظف القطاع العام قد ينتظر راتبه بينما الفوائد تُسدد في موعدها الدقيق. 

وأكد سعيد أن القانون حدّد أيضًا سقف الدين العام عند 80% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو سقف يبدو "منضبطًا" على الورق، لكنه في ظل ضعف النمو وتحويل المقاصة غير المنتظم، قد يُقيد قدرة الحكومة على مواجهة الأزمات أو دفع المتأخرات.

أما قانونيًا، فيؤكد سعيد أن القانون رسم تراتبية جديدة للالتزامات الحكومية: الديون أولًا، ثم الرواتب والخدمات. أي أن الدولة أصبحت "مدينًا منضبطًا" أمام البنوك، لكنها ليست بالضرورة "كريمًا" مع موظفيها. بل إن إدراج صناديق التقاعد ضمن مفهوم الدين العام يعني أن مستحقات المتقاعدين أصبحت خاضعة لسياسات إدارة الدين وجدول السداد.

ولفت إلى أن هذا القانون يهدف إلى إصلاح الخلل المالي لكنه ينقل عبء الانضباط إلى المواطن. فالموظف الذي يتحمل ديونًا شخصية بسبب اقتطاع راتبه، سيجد نفسه اليوم أكثر انكشافًا أمام البنوك وأقل حماية أمام القانون.

ويتساءل سعيد: هل يمكن أن يتحقق الانضباط المالي دون عدالة اجتماعية؟

ويجيب: "الإصلاح الحقيقي لا يكون بتقييد الإنفاق فقط، بل بإعادة ترتيب الأولويات بين الدائن والمواطن، بين السند المالي والإنسان. فالمديونية ليست أرقامًا جامدة، بل وجوه تنتظر راتبًا، وعائلات تحلم بيوم لا يكون فيه الوفاء للدين أكبر من الوفاء للناس". 

مخاطر مالية بعيدة المدى

بدوره، اعتبر مرصد السياسات الاجتماعية والاقتصادية (المرصد)، أن القرار بقانون ضربة قاصمة للاقتصاد الفلسطيني الهش.

وقال المرصد، في بيان صحفي تلقت "صدى نيوز" نسخة منه  إن هذا "القرار بقانون" ذي الطابع الاقتصادي الأخطر منذ نشوء السلطة الفلسطينية، لما ينطوي عليه من مخاطر مالية بعيدة المدى ستكبّل الشعب الفلسطيني بديون لا قدرة له على سدادها.

وقال المرصد"بموجب هذا القرار، رُفعت السقوف المسموح بها للدَّين العام بنسبة 100%، أي من 40% إلى 80% من الناتج المحلي الإجمالي، كما جرى توسيع تعريف الدَّين العام ليشمل الالتزامات الحكومية المباشرة وغير المباشرة، الداخلية والخارجية، على حدٍّ سواء. وبذلك يصبح الشعب الفلسطيني مطالباً بخدمة دين عام يتجاوز 50 مليار شيقل".

ولفت المرصد إلى أن مضاعفة الدين العام بدون أي أسس اقتصادية متينة يشكل خطراً على مدخرات وأموال المودعين في البنوك، خاصة في ظل التوجه نحو إصدار سندات خزينة بمليارات إضافية. وقال المرصد إنه إذا ربح البنك نتيجة تعاملاته بالسندات والقروض الإضافية سيكون مردود ذلك للمساهمين، لكن في حال الخسارة فإن من يدفع الثمن هم المودعون.

وأضاف المرصد" لا يأتي هذا القرار انطلاقاً من قدرة السلطة على الإيفاء بالتزاماتها المالية، بل لترحيل عبء هذه الديون إلى السنوات المقبلة والأجيال القادمة". أما ما يسمى بـ (حساب الوفاء)، فتعتريه تساؤلات جوهرية حول مصادر تمويله في وقت تعجز فيه السلطة حتى عن دفع بدل مواصلات للأطباء والمعلمين.

مزايا ايجابية

أما الخبير الاقتصادي مؤيد عفانة فأكد لـ"صدى نيوز"  أن القانون الجديد يحمل العديد من المزايا الإيجابية وأبرزها إعادة تعريف الدين العام ليشمل كافة المتأخرات المستحقة على الحكومة من بينها مستحقات الموظفين ومتأخرات القطاع الخاص، وليس حصر الدين العام على موضوع الاقتراض فقط من القطاع المصرفي كما هو معمول بها حالياً.

وأكد عفانة لـ"صدى نيوز" أن الحكومة اتفقت مع شركة متخصصة أردنية على إعداد آليات تمكن الحكومة من اصدار سندات لجدولة سداد ديونها للموظفين والقطاع الخاص. 

وأشار عفانة إلى أن القانون الجديد يحدد "سقف الاقتراض السنوي" لتحديد حجم الديون المخصصة لتمويل العجز في الموازنة أو إعادة هيكلة الدين القائم، و"خطة السداد" التي تنظم آلية ترصيد الأموال وفق مواعيد الاستحقاق، إلى جانب استبدال مصطلح "صندوق الوفاء" بـ"حساب الوفاء" الذي يمثل محوراً مركزياً في التعديلات الجديدة.

في غضون ذلك، أكد مصدر حكومي مطلع لـ"صدى نيوز"  أن القرار بقانون  يعدّ خطوة تهدف إلى ضبط سياسة الاقتراض الحكومي وتنظيم إدارة الدين العام بما يتناسب مع الواقع المالي الراهن.

وأضح المصدر أن إعداد القانون الجديد استغرق أكثر من عامين من العمل الفني والتشاور مع الجهات المعنية بما في ذلك سلطة النقد وهيئة سوق رأس المال وعدد من المؤسسات المالية، للوصول إلى صياغة توافقية تهدف إلى معالجة الديون المستحقة على الحكومة، ومواءمتها مع أفضل الممارسات الدولية في إدارة الدين.

وأضاف المصدر أن التعديلات الجديدة تمثل نقلة نوعية مقارنة بالقانون الأصلي المعمول به منذ عام 2005، وكذلك القانون الأردني المؤقت رقم (96) لسنة 1966، وتشمل التعديلات ما يلي: تحديد آليات دقيقة لإدارة حسابات السداد، وضع سقوف واضحة للديون، وإدخال مفاهيم مالية حديثة تعزز ثقة المستثمرين والجهات الرقابية تضمن استدامة المالية العامة.

وأكد أن التعديلات تهدف إلى معالجة الديون المستحقة على الحكومة كذلك تحديث الإطار التشريعي للدين العام، ووضع ضوابط دقيقة لسياسات الاقتراض والسداد.

وبحسب المصدر، فقد تم استحداث مفاهيم مالية جديدة من أبرزها "سقف الاقتراض السنوي" لتحديد حجم الديون المخصصة لتمويل العجز في الموازنة أو إعادة هيكلة الدين القائم، و"خطة السداد" التي تنظم آلية ترصيد الأموال وفق مواعيد الاستحقاق، إلى جانب استبدال مصطلح "صندوق الوفاء" بـ"حساب الوفاء" الذي يمثل محورًا رئيسيًا في التعديلات الجديدة.

ويُعد إنشاء "حساب الوفاء" في وزارة المالية أحد أهم مخرجات التعديل، إذ سيخصص لتجميع الأموال اللازمة لسداد الالتزامات المترتبة على السندات الحكومية. 

وأشار المصدر إلى أن القانون يسعى أيضًا إلى ضبط حدود الاقتراض بحيث لا يتجاوز رصيد الدين العام القائم 80% من الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية، وهو ما يشكل ضمانة للحد من تضخم المديونية وتعزيز الاستقرار المالي. 

اقرأ أيضاً: قانون الدين العام الجديد.. هل تنجح السلطة في كبح تصاعد الديون؟

تسديد الديون بالسندات

وكانت مصادر حكومية أعلنت في وقت سابق  أن وزارة المالية تدرس إصدار سندات موجهة للقطاع الخاص ولموظفي القطاع العام، بعد فشل محاولات سابقة مع البنوك العاملة في السوق المحلية لشرائها. ووفق هذه المصادر فإن أحد المقترحات التي يجري تداولها، أن تبيع وزارة المالية السندات للموظفين العموميين الراغبين بهذه الخطوة، لقاء مستحقاتهم المالية على الحكومة، والتي تمثل ما تبقى من أجورهم الشهرية منذ تشرين الأول 2021.كذلك، ستطرح الوزارة السندات للقطاع الخاص، وبالتحديد الشركات الراغبة بالاستثمار في أدوات الدين الحكومية، والتي ستكون الأولى من نوعها في السوق الفلسطينية.

من جهته، يقول رجل الأعمال سمير حليلة" رفع الدين مربوط بالقدرة على سداده، أو سداد فوائده، وموضوعنا سياسي وليس مالياً، فليس واضحاً متى ستعيد اسرائيل ضخ المقاصة لنا"، مشيراً إلى أنه إذا كان  القانون يستهدف البنوك فيجب أن تفكر في مصلحتها ومخاطرها، أما إذا كان المقصود الموظفين فهي فئات ضعيفة وتحتاج لنقاش معمق وشامل خوفا ًمن الغرق في الدين.

هل البنوك متشجعة لشراء السندات؟

واستغرب الخبير الاقتصادي محمد سلامة كيفية استصدار هذا القرار بقانون بمعزل عن سلطة النقد متسائلا" لماذا يتم تحييدها أو تبرئتها؟ فكيف تتصرف السياسية المالية في معزل عن السياسة النقدية وعدم التنسيق معها؟". 

وأضاف" سلطة النقد تقوم بدور البنك المركزي، ودورها ليس محصوراً على الرقابة وإنما الجهة التي يفترض أنها تقوم بإصدار السندات عن الحكومة وهي من يحدد العائد ويدير المزاد السعري وهو الذي ينفذ دراسة الجدوى.

 ويبين أن فكرة الاستدانة تقوم على حق الجيل الحالي الاستدانة لبناء استثمار يخدم الجيل الحالي ويساعد الجيل القادم على تسديد ما سيستحق كناتج لمشاريع تنموية أو بنية تحتية أو تكوين رأس مالي، وليس الاقتراض للصرف على رفاهية جيل على حساب الجيل القادم.

وحتى إعداد هذا التقرير لم يصدر أي تعقيب من سلطة النقد حول هذا القانون أو دورها فيه. 

ويتابع سلامة "أنا مع الاقتراض من أجل التنمية ولست مع الاقتراض لتمويل العجز في الميزانية لهذا الجيل، فليتنازل هذا الجيل عن رفاهيته ويعيد صياغة نظامه المالي بحيث لا يستهلك حقوق الجيل القادم".

ويقول الصحفي المختص بالشأن الاقتصادي محمد عبد الله" سلطة النقد كانت أول جهة تواصلت معها وزارة المالية، ونصيحتها هي ومدراء البنوك للوزارة على مقترح إصدار السندات جعل الأخيرة تكمل خطوتها بعيداً عن الجهاز المصرفي".

وفي ظل استمرار حالة الجدل القائمة حول بنود القانون، وإمكانية تسديد مستحقات الموظفين عن طريق منح سندات، علمت "صدى نيوز" من مصادر مصرفية أن معظم البنوك لا تعتبر نفسها "متشجعة" لشراء سندات حكومية في ظل غياب ضمانات حقيقية للتسديد.  

السندات...مخاطر ومحاذير

ويقول مصدر مصرفي لـ"صدى نيوز" : خطوة تحويل المستحقات المالية للموظف الحكومي إلى سندات دين تحمل فوائد ومخاطر ومحاذير، فهذا إجراء مالي حساس يحمل فوائد ظاهرية لكن أيضًا مخاطر خفية تحتاج فهمًا دقيقًا قبل موافقة الموظفين عليه".

ويشرح إلى أن منح السندات هو اعتراف من الحكومة بأنها مدينة للموظف بمبلغ معين، لكنها لا تدفع له المبلغ نقدًا الآن، فبدلًا من ذلك، تعطيه سندًا حكوميًا (أو "صك دين")  تتعهد فيه بدفع  مبلغ معين للموظف بعد 5 سنوات بنسبة فائدة محددة  مثلاً4%.أي أن الدين يتحول من دين نقدي فوري مستحق الآن إلى ورقة مالية مؤجلة الدفع.

وحول الفوائد من هذا الموضوع، يوضح المصرفي أن السند يعتبر اعترافًا رسميًا من الحكومة بالدين، وقد يكون قابلًا للتداول أو البيع، فبعض السندات تمنح فائدة سنوية، ما يزيد المبلغ مع الوقت.أما الحكومة تتنفس ماليًا دون إنكار الدين، وتدفع لاحقًا عندما تتحسن الموازنة.
وقد يُستخدم  الموظف السند كضمان بنكي إذ يمكن له أن يرهنه أو يبيعه في السوق (إذا كان مسموحًا بذلك).

أما  المخاطر والمحاذير حول هذا الموضوع، فيوضح المصرفي أن أبرز المخاطر تتمثل بفقدان القيمة الفعلية للمال، فعند تأجيل الدفع لعدة سنوات، سيقلل التضخم  من قيمة المبلغ الحقيقي. 

كذلك هناك مخاطرة في السداد، فإذا ساءت أوضاع الدولة أو تغيرت الحكومة، قد يتأخر السداد أو يتم تخفيض قيم السندات بقرارات اقتصادية أو سياسية، بالإضافة إلى أن السند قد لا يكون قابلاً للتداول بسهولة، وإذا باعه الموظف في السوق، فغالبًا سيبيعه بسعر أقل من قيمته الأصلية (خصم كبير).

ومن السلبيات كذلك،  فقدان الحق في المطالبة الفورية فبمجرد قبول السند، يعتبر الموظف تنازل عن حقه بالدفع الفوري، فلا يمكنه مقاضاة الحكومة للمطالبة بالمال، بالإضافة إلى 
إمكانية أن تصيغ الحكومة السند بطريقة تجعلها غير ملزمة قانونيًا بالسداد في وقت محدد، أو "مرتبطة بقدرة الموازنة"، وهذا خطر كبير.

أما المستفيد الحقيقي حسب المصرفي يقول : الحكومة تستفيد ماليًا فورًا لأنها تؤجل دفع الأموال وتخفف الضغط عن الخزينة، أما الموظف فيستفيد فقط إذا كان السند مضمونًا مئة بالمئة، وقابلًا للتداول".

ويضيف" تحويل مستحقات الموظفين إلى سندات قد يبدو حلاً مالياً مؤقتًا مفيدًا للحكومة،
لكن من الناحية الواقعية والاقتصادية هو مخاطرة عالية على حقوق ومستحقات  الموظفين الحكوميين ".
 
أرقام صادمة 

حسب بيانات صادرة عن وزارة المالية، فإن إجمالي الدين العام وصل حتى نهاية شهر أيار 2025 إلى  نحو 45.5  مليار شيقل، توزّع على عدة جهات، من بينها البنوك(محلياً وخارجياً)  بـ 15.4 مليار شيقل، والقطاع الخاص بـ 6.6 مليار شيقل، إضافة إلى رواتب الموظفين بـ 5.2 مليار شيقل وديون أخرى بقيمة 18.3 مليار شيقل. غير أن مراقبين يعتقدون أن الدين العام ارتفع مؤخرا ليتجاوز (47) مليار  شيقل. وأشارت بيانات حديثة لوزارة المالية أن المستحقات المتراكمة لصالح موظفي القطاع العام على الحكومة وصلت مع نهاية شهر أيلول الماضي إلى 6.6 مليار شيقل.

وحسب بيانات مصرفية، فقد بلغت حجم التسهيلات الممنوحة في فلسطين مع نهاية النصف الاول من العام الجاري نحو 11.6 مليار دولار منها نحو 3.3 مليار دولار تسهيلات للقطاع العام، بينما وصل إجمالي الودائع خلال الفترة نفسها إلى نخو 20.5 مليار دولار.