
كشفت تصريحات نائب رئيس الأمريكي "جي دي فانس" ومبعوث الرئيس جاريد كوشنير، القاضية بإعادة الإعمار في المناطق التي تسيطر عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي، إلى احتمالية تطبيق سيناريو تقسيم قطاع غزة إلى قسمين "غزتين " واحدة تحت سيطرة حركة حماس وهي التي تقع غرب الخط الأصفر والتي تحوي أغلب السكان الفلسطينيين "المقيمين والنازحين فيها من المناطق التي سيطرت عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي، والثانية شرق الخط الأصفر التي تسيطر عليها قوات الاحتلال وهي شبه خالية من الفلسطينيين.
إنّ تحقيق التوازن بين رغبة إعادة الاعمار دون أنْ تعود حركة حماس لتمثل تهديداً على حدِ قول "دي فاس" يقر بقاء حكم حركة حماس في الشطر الغربي لقطاع غزة ولكن محاصرةً، ومعزولةً، ومنبوذةً، وغير قادرة على تلبية احتياجات المواطنين فيها وعلى إعادة الاعمار، وفي الوقت ذاته ضعيفة غير قادرة على القتال أو التأثير على أمن إسرائيل مع وجود شريط عازل تسيطر عليه قوات الاحتلال أو القوات الدولية " قوة الاستقرار الدولية". هذا الأمر يتساوق مع أحكام البند 17 في خطة ترامب لوقف الحرب في غزة الصادرة في 29/9/2025 "في حال أجّلت حماس هذا الاقتراح أو رفضته، فإن ما سبق، بما في ذلك توسيع نطاق عملية المساعدات، سيُطبّق في المناطق الخالية من الإرهاب التي سُلّمت من الجيش الإسرائيلي (IDF) إلى قوة الاستقرار الدولية (ISF)." أي بمعنى آخر تفريغ حكم حركة حماس من القدرة من جهة، وانتقال السكان إلى المناطق المعمرة التي تتوفر فيها الخدمات "السكن والتعليم والصحة" من جهة ثانية، وتوفير فرص عمل في تلك المناطق من جهة ثانية، والانتفاض على حكم حركة حماس في غزة الغربية من جهة رابعة.
هذا السيناريو القائم اليوم يعني اقتطاع جزء من الأراضي الفلسطيني إلى أمد غير محدود وتحويل قوة الاستقرار الدولية من قوات لإنهاء الأزمة إلى قوة لاستدامتها أو بمعنى آخر إلى احتلال إضافي، وهو أمر لا ترغب به الدول العربية التي أعربت عن خشيتها من تحويل مهمتها من قوات لمساعدة قوات الأمن الفلسطينية لتعزيز حكمها ولتحقيق السلام إلى قوات لفرض السلام ونزع السلاح وهما أمران مختلفان يحتاج الفلسطينيون كافة لاستقراء المخاطر القائمة والكارثة القادمة واستنباط أدوات الفعل القادرة على إعادة مشروعهم في الاستقلال وبممارسة حقهم بتقرير المصير.
إنّ فهم الموقف الأمريكي من مسألة وقف الحرب "العمليات العسكرية الواسعة" يستوجب الغوص في عقل الإدارة الأمريكية الحالية ورئيسها لاستيضاح المنّوي القيام به. في الأصل خطة ترامب منفتحة على إقامة السيناريو أعلاه وغيره وفقاً للوقائع والمفاعيل والتغيرات المحتملة؛ فقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرتبط بعدد من العوامل المختلطة والمتداخلة بالإضافة إلى شخصيته النزقة والمتقلبة وحبه في الظهور كمنفرد عن غيره من الرؤساء الأمريكيين السابقين.
في ظني أنّ خليط المصالح والطموحات المتشكلة لديه تؤثر في قراره كعوامل دافعة بشكل مباشر وغير مباشر لتحقيق الاستقرار "السلام" في مقدمتها (1) تحقيق شعار أمريكا أولاً وإعادة العظمة لها من خلال تعزيز الاقتصاد وتمويل النهضة الأمريكية وهو أمر مرتبط بالحاجة لأموال الاستثمار الخليجي داخل الولايات المتحدة الأمريكية كما حصل ذلك في زيارته لدول الخليج الرئيسية هذا العام من جهة، والرغبة بعدم الإنفاق خارج الولايات المتحدة "على تمويل الحروب كما فعل سلفه جو بايدن" انسجاما مع الموقف الانعزالي التقليدي للحزب الجمهوري من جهة ثانية. و(2) توسيع اتفاقيات "أبراهام" وهو جزء من الإرث السياسي الكبير في سجل الرئيس الأمريكي في السياسة الخارجية حال تحقق الوصول إلى اتفاق بين إسرائيل والسعودية بوابة العالمين العربي والإسلامي (على غرار جيمي كارتر في اتفاق كامب ديفيد، وبيل كلينتون في اتفاق أوسلو ووادي عربة).
و(3) تحقيق مجد شخصي بالحصول على جائزة نوبل للسلام؛ وهي نقطة مركزية في تفكير الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى جانب الرؤساء الأمريكيين خاصة باراك أوباما الذي أستهزئ به علناً. و(4) التحولات داخل الرأي العام الأمريكي التي تظهر أنّ التأييد لإسرائيل لن يكون عاملاً حاسماً كمحرك للتصويت في الانتخابات الأمريكية مما يؤثر على حظوظ مرشحي الحزب الجمهوري في الانتخابات النصفية القادمة للكونغرس وطبعاً للمجالس على مستوى الولايات. و(5) محاولة إنقاذ إسرائيل من العزلة المتبلورة على المستويين العالمي والدولي، ومن جنون القوة التي تحتكم إليها في سلوكها، والحفاظ على هذه القاعدة الأمريكية المتقدمة في منطقة الشرق الأوسط من جهة ثانية.
آن الأوان؛ بغض النظر عن النوايا الأمريكية والإسرائيلية وأفعالهم، لنظر الفصائل الفلسطينية، المجتمعون في القاهرة اليوم مطالبين، بعناية لاحتياجات ولتعظيم مصالح المواطنين الباقون أبداً، أما الفصائل والأحزاب والقوى السياسية أدوات تأطير المقاومة والحكم زائلة؛ تتبدل بأشكالها وطبائعها، وتتغير في سياساتها وتوجهاتها، وفي مكانتها الشعبية، وحتى بواعثها الفكرية والأيديولوجية.
إنْ أنَّ قد آنَ أوانُه؛ لاسترجاع الفعل الفلسطيني بالاحتكام للعقل ومصلحة الفلسطينيين، واختراق المُدبر والتدبير الخارجي لنكبة سياسية جديدة بتقسيم قطاع غزة بعد الكارثة الإنسانية التي حلت بالفلسطينيين فيه؛ للحفاظ على غزة واحدة ومنع تكوين غزتين. إنْ أنَّ قد آنَ أوانُه؛ لتتحلى حركة حماس بالعقل والتدبر بالتخلي عن المصالح الحزبية الضيقة بتسليم الحكم للسلطة الفلسطينية كفاعل مقبول لاستمرار مسار خيار حل الدولتين المقبول دولياً. إنْ أنَّ قد آنَ أوانُه لتتحلى السلطة الفلسطينية وحركة فتح بالحكمة والحصافة لِلَمِ شمل الفلسطينيين والحفاظ على ما تبقى من قدرة فلسطينية والتخلي عن النظرة الضيقة للحكم والاستفراد به.