قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت فلسطين على مقصلة الأميركان، وكان بنيامين نتنياهو يعدّ عدّته وسكاكينه للذبح السياسي، وتحوّل إلى مرحلة «حسم» الصراع معتقداً أن «الانقسام» الفلسطيني، و»التطبيع» العربي، وانشغال العالم بالحرب الروسية الأوكرانية، بما في ذلك الانشغال الأوروبي، هي فرصته التاريخية التي قد لا تتكرّر أبداً، ولذلك فقد جاهر على لسان أشدّ أتباعه في «الائتلاف الحكومي الفاشي» تطرفاً وعنصرية بأن خيارات الفلسطينيين باتت محدودة ومحصورة في خيارات ثلاثة:

إمّا الخنوع، أو الموت، أو الطرد والتهجير. وأعدّ نتنياهو خرائطه الشهيرة، وأصبح يجوب بها شارحاً وموضّحاً ومتبجّحاً كيف أن فلسطين قد شُطبت بموافقة أميركية، وتغافل عربي، وسكوت أوروبي إلّا من رحمَ ربّي.

كانت الأمور حتى ذلك الوقت تسير كما يشتهي نتنياهو ويرغب، وكانت الضفة الغربية هي ساحة الحسم الأولى، معتقداً أن قطاع غزّة دخل في مرحلة «المساومة» على بقاء سلطة حركة «حماس» مقابل الهدوء، ومقابل بقاء القطاع خارج الحسبة السياسية بإدامة الانفصال عن الضفّة، وضرب الكيانية الوطنية الفلسطينية في مقتل، وبما يتيح له أن يحقق بهدوء مشروعه التاريخي بتصفية الحقوق الوطنية الفلسطينية وتحويلها إلى احتياجات معيشية، ليس في الضفة فقط، وإنما في القطاع، أيضاً، بعد تكريس انفصاله.

إلى ذلك الحين كان «اليمين» الفاشي مطمئناً إلى رؤيته، وكان لديه من «الوقائع» ما يكفي ويزيد لصحة، بل ولدقّة هذه الرؤية.

هنا كانت الحالة الإسرائيلية قد خدعت نفسها أو أعمتها تلك «الوقائع» بدافع من عوامل متداخلة من عنوان واحد وكبير وهو الإعتام الأيديولوجي، والذي يؤدّي في العادة، وفي الظروف الإسرائيلية الخاصة، إلى أشدّ الأخطار فتكاً على كل منظومة سياسية، وعلى الدول مهما كانت قوية، وعلى الجيوش مهما كانت متفوقة، وعلى المجتمعات مهما كانت متماسكة.

وأظنّ هنا تحديداً أن يحيى السنوار الذي كان قد أعدّ خطّته بهدوء، ومهّد كل العوامل «الحمساوية» الضرورية لـ»طوفان الأقصى» ضرب ضربته الإستراتيجية الهائلة، واستهدف إفقاد دولة الاحتلال توازنها، والمجتمع الإسرائيلي تماسكه الهشّ، وجيش الاحتلال واستخباراته وأذرعه الأمنية قدراتها الاستباقية التي كانت ستأتي على القطاع لتركيعه بعد أن تحسم معركة الضفّة.

وبالعودة الآن إلى خطابات السنوار التي سبقت ومهّدت لهذه الضربة، نستطيع أن نفهم دوافعه منها. باختصار، كان بحسّه السياسي الخاص يعرف أن «حماس» ستواجه مصيرها في لحظة سياسية قادمة، فإما أنها ستلعب لعبة السلطة، وتساوم بمقاومتها للاحتفاظ بها تحت شروط إسرائيلية ستؤدي حتماً إلى نهايتها، أو أن الحركة ستقلب المعادلة، وتقلب الطاولة بما قد يؤدي إلى نهاية سلطتها، وربما تقليص دور مقاومتها، ولكن بثمن يضع دولة الاحتلال في مأزق تاريخي جديد، ويضع جيشها، وحتى مجتمعها كله أمام وقائع جديدة تختلف جذرياً، عن الوقائع التي كان يراها نتنياهو «ناضجة» للانقضاض على الحقوق الوطنية الفلسطينية.

وبالفعل تحقّق للسنوار ما أراد في وضع دولة الاحتلال، وكامل المشروع الصهيوني، أمام أخطار فتّاكة في مواجهة العالم كله، وفي مواجهة شعوب الأرض قاطبة.

وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت دولة الاحتلال الآن هي عنوان الإجرام والإبادة والعنصرية، وتحوّلت إلى كيان منبوذ خسر كل شيء، خسر سمعة جيشه، وخسر فردانية كيانه في «الديمقراطية» الوحيدة في الإقليم، وخسر أمنه، وتحوّل إلى الكيان الأقلّ أمناً في العالم، وخسر اقتصاده الذي كان يعتبر اقتصاداً صاعداً ونموذجياً في النمو، وفي ريادية القطاعات التي يطوّرها، وفي ميزاته التصديرية، وفي درجة اشتباكه وتشابكه مع كبريات الشركات العالمية في المجال المعرفي والتكنولوجي، وخسر سمعته الاستثمارية.

كما خسرت دولة الاحتلال سمعتها أمام يهود العالم، وبدأت مواردها البشرية المميزة بالهجرة، ووصلت الهجرة المعاكسة إلى معدلات قياسية.

ومع هذا، فإن أهمّ ما يميّز الخسارات الإسرائيلية أنها خسارات إستراتيجية لا يمكن تعويضها في المدى المنظور، وهي في سوادها الأعظم غير قابلة للرجوع، وهي قد تحوّلت إلى اتجاه للتطوّر وليس مجرّد نزعات قابلة للارتداد.

باختصار، الخسارات الإسرائيلية هي خسارات سياسية إستراتيجية غير قابلة للترميم ربما لعقود قادمة.

مقابل ذلك، ربحت فلسطين عودتها إلى قلب العالم، وإلى محور اهتمام شعوب الأرض، بخسائر باهظة على المستوى الإنساني، والتي في بعض ملامحها هي كارثية على الصعيد الإنساني مقابل الخسارات الكارثية الإسرائيلية على الصعيد السياسي، ولا يجوز ــ كما أرى ــ أن نقع في محظور معادلات سطحية ترى هذه الصورة مقلوبة، للتفتيش عن «حلول» لأزمة الحَوَل السياسي الذي تعاني منه بعض الأوساط في حالتنا الوطنية.

ولهذا بالذات لم يعد الواقع يحتمل الكثير من النقاشات التي ما زالت تدور حول صحة أو عدم صحة التقديرات، والحسابات، والتوقعات، لأن خسارات دولة الاحتلال ماثلة للعيان، وخسارات فلسطين ماثلة للعيان، أيضاً، خسارات سياسية كارثية على دولة الاحتلال، وخسارات إنسانية كارثية على فلسطين، والبحث عن معادلات أخرى هي أوهام سياسية وليس رؤى سياسية، وهي تمنّيات كامنة وليست اعتبارات موضوعية. وهي دوافع خاصة، فكرية أو سياسية أو مصالح ذاتية المنشأ والتوجّه مهما حاولت التذرّع بهول الكارثة الإنسانية، وهي في الجهة الإسرائيلية المقابلة تكاد تكون نسخة طبق الأصل عن هذا الواقع.

وهو واقع الهروب والتهرّب من الكارثية السياسية تحت أوهام وأكاذيب ليست في الواقع سوى الساتر للحفاظ على حكومة عنصرية، ليس لها علاقة بالمصالح «القومية» الإسرائيلية، وإنما بمصالح وفكر واعتبارات سياسية خاصة ماثلة للعيان، ولا تحتاج إلى دليل إضافي واحد.

لكن الكارثة الإنسانية الفلسطينية على هولها يمكن أن تتحول إلى كارثة سياسية إذا لم يُحسن شعبنا وقواه الحيّة التعامل مع تعقيدات المرحلة الجديدة التي نتجت حتى الآن عن حرب السنتين الإبادية.

وعنوان معركة المرحلة الجديدة هي عنوان الشرعية الكيانية الوطنية وهويتها الوطنية، وإستراتيجيات الصمود الموجبة لها. هنا يجب أن نعود إلى نتنياهو، وإلى ترامب لنفهم طبيعة المعركة، وأهمية العنوان وخطورته، أيضاً.

المخطّط الصهيوأميركي كان يهدف إلى تدمير أي كيانية وطنية فلسطينية من باب تسهيل مهمة تصفية القضية الفلسطينية أوّلاً، ثم من باب قطع الطريق على أن تلعب دوراً سياسياً فاعلاً في التصدي لهذا المخطط، ومن باب درء أخطار أن تتمكّن هذه الكيانية من أن تقلب هذا المخطط رأساً على عقب في حال فشله.

هذا هو الذي يفسّر حصار السلطة الوطنية الفلسطينية، وهذا هو سرّ الترويج الإسرائيلي لمنع «حماسستان» و»فتحستان»، وهذا هو بالمقابل السرّ في الوقاحة الأميركية بمنع الرئيس محمود عباس من الذهاب للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا هو السرّ في تماهي أميركا في عهدَي جو بايدن، وترامب مع الموقف الإسرائيلي.

وبالمقابل لا يضير أميركا «المدائح» التي بدأت تكيلها لـ»حماس»، والتي تهدف وتأمل أن تنجرّ الأخيرة إلى «فخّ» الوعود الأميركية بالحلول السياسية تحت ضغط أوضاعها الخاصة، وبذلك فإن أميركا تدرك أنه لا شرعية رسمية لـ»حماس» حتى الآن، وبالتالي لا خوف من محاولات الإيقاع بها.

شرعية منظمة التحرير الفلسطينية وشرعية سلطتها الوطنية، بالتالي في خطر شديد، وهذا هو الوجه الأوّل من خطر تحوّل الكارثة الإنسانية إلى كارثة سياسية.

أما الوجه الثاني فهو أن تعتقد «حماس» أن باستطاعتها التحول إلى أي شكل من أشكال الشرعية إلّا إذا تحوّلت إلى «جولاني» جديد، وبالتالي الوقوع في الفخّ الأميركي.

الدفاع عن الشرعية الوطنية، والكيانية الوطنية، هو دفاع عن الحقوق والقضية، وليس عن أشخاص أو فصائل أو أحزاب أو منظمات.

«فتح» و»حماس» وكل فصائل العمل الوطني، وكل المستقلّين الوطنيين، أمام امتحان المسؤولية في مرحلة الخطر على مستقبل العمل الوطني كلّه، وما زال ممكناً إجهاض الخطة المعادية بحدّ أدنى من الوحدة.