السؤال الذي أُثير منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023: هل أخطأت حماس في حساباتها؟ ألم تكن تعلم أن هذا ما سيكون؟
في إحدى الفضائيات العربية، سألت المذيعة موسى أبو مرزوق، القيادي في حماس: "هل ظنّت حماس أنها ستحرّر فلسطين؟"
السؤال أغضب أبو مرزوق، فانسحب من المقابلة. طبعًا، السؤال مستفز، لأنّ أيّ طفل يعرف أن تحرير فلسطين لا يتم بـ1400 مقاتل، ولا حتى بمئة ألف مقاتل، في توازنات القوى التي يعرفها الجميع.
كلّ طفل يعرف أن هدف العملية لم يكن تحرير فلسطين، بل كان الهدف هو تبييض السجون من الأسرى الفلسطينيين، وتحريك القضية الفلسطينية التي تراجع الاهتمام بها، في حين يواصل الاحتلال ضمّ المزيد من أراضي الضفة الغربية، والحصار الطويل على قطاع غزة، وبات أمر وجود كيانين، أحدهما في الضفة والآخر في غزة، مسلّمًا به.
حماس قاست العملية بمعايير تبادل أسرى سابقة؛ فالجندي جلعاد شاليط تم تبديله بأكثر من 1027 أسيرًا فلسطينيًا، وقياسًا على ذلك، عملت حماس حساباتها بأنّ أسر عدد من الجنود يمكن أن يؤدّي إلى عملية تبادل تشمل جميع الأسرى الفلسطينيين.
كانت المفاجأة أن حماس أسرت عددًا كبيرًا من الجنود، هي نفسها لم تتوقّعه. إلا أن ما شوّه العملية هو قيام بعض المشاركين فيها بقتل وأسر مدنيين، بينهم مسنّون، وما رافق العملية من هروب جماعي للمحتفلين في مهرجان موسيقي، واستخدام جيش الاحتلال لبروتوكول "حنبعل" بقتل الرهائن مع آسريهم.
كان هذا المشهد مستفزًّا لكلّ من شاهده، إضافة إلى عمليات "الغنائم" التي أخذها بعض المدنيين الغزّيين بعد فتح الشريط الحدودي بين الجانبين.
كان إنجاز حماس العسكري كبيرًا جدًا، ولا أحد ينكر ذلك، حتى قادة جيش الاحتلال.
الحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو تلقّت ضربة في مقتل، فهي الحكومة التي سوّقت نفسها على أنها حكومة اليمين الخالص والأكثر تشدّدًا.
وموافقتها على عملية تبادل أسرى تعني فشلها ونهايتها، وفي المقابل رفع أسهم حماس إلى السماء، ليس فقط في قطاع غزة، بل وفي الضفة الغربية وخارج فلسطين، وخصوصًا أن جبهة جنوبيّ لبنان كانت ما زالت غامضة في قدراتها، بقيادة السيد حسن نصر الله قبل استشهاده.
لهذا كان من المستحيل على حكومة بمواصفات الحكومة الحالية القبول بعملية تبادل أسرى. فهذا يعني بقاء حماس في السلطة أقوى بكثير مما كانت عليه قبل العملية، ويعني أيضًا ضعف إسرائيل وقدرتها على الردع.
قرّرت حكومة نتنياهو الحرب، ولكن ليس حربًا عادية، بل اتخذت قرارًا باستغلال الفرصة للقضاء على الوجود الفلسطيني في قطاع غزة، من خلال تهجير سكانه والقضاء على المقاومة.
ركّز الاحتلال في حملته الإعلامية على الضحايا المدنيين من الجانب الإسرائيلي، لتبرير جرائم الحرب ضد المدنيين الفلسطينيين، على مبدأ "التعامل بالمثل وأكثر"، بمعنى أن حماس قتلت مدنيين إسرائيليين، وهذا يعني أن من حق إسرائيل قتل المدنيين الفلسطينيين. في الوقت ذاته، حاولت إبقاء الضربة العسكرية الماحقة التي تلقتها فرقة غزة في الظل، والتركيز على أن هجوم حماس كان ضد مدنيين في أساسه.
الرّد الإسرائيلي تجاه المدنيين كان أكبر من أيّ توقّع، قياسًا بكلّ الحروب السابقة، مدعومًا بعدة عوامل تشجيعية؛ أوّلها الدعم المطلق داخل إسرائيل، حيث الإجماع القومي التام على الردّ بحرب شاملة، والتحريض ضد المدنيين الفلسطينيين كشركاء في الهجوم.
الدّعم الأميركي المطلق، معنويًا وعسكريًا واقتصاديًا، إضافة إلى الدعم والتعاطف الغربي والدولي في بداية الحرب مع الرواية الإسرائيلية التي قادها نتنياهو، والتي ثبت أن أكثرها مادة إعلامية لتبرير الإبادة، مثل "اغتصاب النساء وذبح الأطفال بالجملة وتعليقهم على حبال الغسيل".
استغل نتنياهو ما يُسمى "محاربة الإرهاب"، المتفق عليها مع أكثر الدول العربية، وخصوصًا علاقة النظام المصري السيئة بحماس، التي يعتبرها امتدادًا أو فرعًا من فروع الإخوان المسلمين المعادية له.
منحت الإدارتان الأميركيتان، بايدن وترامب، كل الوقت المطلوب والدعم اللامحدود لما أُطلق عليه "إنهاء المهمة". بايدن انتظر تدمير حماس واستسلامها، بينما زاد ترامب على ذلك موافقته على خطة التهجير، وأطلق ما أسماه "ريفيرا غزة". كذلك منحت دول عربية وإسلامية وأوروبية كلّ الوقت المطلوب لجيش الاحتلال والدعم لإنهاء المهمة.
لكن جيش الاحتلال وُوجه بشراسة مقاومة فاقت كل التوقعات في قدرتها على البقاء ومواصلة تكبيد جيش الاحتلال الخسائر، وخصوصًا أن المقاومة لم يكن أمامها سوى المواجهة أو الموت، في كلّ الحالات.
أدّى تأخر حسم الحرب، بفضل صمود المقاومة أولًا، إضافة إلى اللاعب اليمني الذي شلّ الملاحة باتجاه إيلات، وكذلك الحرب في جنوبيّ لبنان، ودخول إيران في جولة قصيرة ولكنها مدمّرة، إلى بدء الشعوب حول العالم في التفاعل مع ما يصل من فظائع الإبادة، وتصاعد وتيرة الاحتجاجات، خصوصًا في أوروبا وحتى كندا وأستراليا وأميركا. كما تململ المغرب في مظاهرات غير مسبوقة، اجتماعية من جهة، وسياسية رافضة للتطبيع ومؤيدة لفلسطين من جهة أخرى، الأمر الذي تحوّل إلى وضع مقلق لأنظمة المنطقة كلّها.
نظام السيسي رفض التهجير في بداية الحرب. هو معني بالقضاء على حماس، لكنه لا يستطيع أن يكون شريكًا في تهجير الفلسطينيين، لأنّ ذلك سوف يسبب له المتاعب، سواء من الشعب المصري المغلوب على أمره بالقمع، أو من المهجّرين أنفسهم. أما إعلان نتنياهو أنه ينوي ضمّ الضفة الغربية، فقد زاد الطين بلّة؛ فالضفة الشرقية للأردن شعرت أيضًا بالخطر، وتدخّله في الجنوب السوري أشعل الأضواء الحمراء لدى الجميع، بجدية نتنياهو في سعيه لتحقيق مشروع "إسرائيل الكبرى".
وجاءت أساطيل الحرية والصمود لتتحوّل إلى بؤرة نضالية وقِبلة لأحرار العالم، زادت من عزلة إسرائيل.
الاعترافات المتوالية بدولة فلسطين، وترك قاعة الأمم المتحدة خلال خطاب نتنياهو، وفي الأخير رغبة ترامب بجائزة نوبل للسلام، يُضاف إليها تصاعد الاحتجاجات داخل إسرائيل... كلها عوامل أدّت إلى إرغام نتنياهو على قبول وقف الحرب.
السؤال الآن: كيف ستمضي الأمور بعد مؤتمر شرم الشيخ القريب؟ وكيف ستُطبّق بنود الاتفاق المعروفة والمختلف عليها والسّرية؟
لقد أخطأت حماس في حساباتها، وكذلك أخطأت حكومة إسرائيل الفاشية، التي ظنّت أنّه بمقدورها مواصلة الإبادة أمام أعين العالم، وأن تنجح في تفريغ قطاع غزة من أهله.