منذ أن أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خطّته المزعومة لوقف الحرب في قطاع غزّة، احتدم النقاش السياسيّ والاجتماعيّ، فلسطينيّا وعربيّا، حول مخرجات هذه الخطّة وتداعياتها على مستقبل القضيّة الفلسطينيّة، بل وعلى مستقبل الشرق بأكمله.
يدور هذا النقاش، المشروع تماما، بين سندان الحقوق السياسيّة ومطرقة الاحتياجات الإنسانيّة، في لحظة تحاول فيها الإدارة الأميركيّة أن تنقذ الدولة الإسرائيلية عبر كبح الزّخم الدبلوماسيّ المتصاعد ضدّها، خصوصا بعد التحوّلات العميقة في الموقفين الأوروبيّ والغربيّ، والانزياحات الواضحة في الداخل الأميركيّ ذاته؛ ما أفرز عزلة غير مسبوقة لإسرائيل، ارتدّت بالضرورة -ولو جزئيّا- على واشنطن ذاتها.
لكن ما يستحقّ التوقّف عنده أكثر من تفاصيل الخطّة، هو التحوّل العربيّ والإقليميّ النوعيّ في مقاربة الحرب ووقفها، لا بوصف العرب وسطاء، بل أطرافا فاعلين في صياغة ما اصطُلح على تسميته باليوم التالي؛ ما يعني أنّ الإرادة السياسيّة التي غابت طويلا بدأت تتشكّل بوعي عميق بمخاطر ما تمرّ به المنطقة في ظلّ الممارسات العدوانيّة لرئيس دولة الاحتلال بدعم أميركيّ كامل الدسم.
هنا، بدأت المعركة الحقيقيّة، معركة المعنى، بين من يريد لهذه الحرب أن تُنهي الملفّ الفلسطينيّ، لتنتهي معه الكثير من الأدوار الإقليميّة، ومن يريد أن يجعل من اللّحظة الراهنة، لحظة وعي جديد ومختلف، يعي معنى الوجود، وتداعياته على المصير المشترك لكامل شعوب المنطقة، ولعلّ استهداف العاصمة القطريّة – وهي أحد الحلفاء الإستراتيجيّين لواشنطن من خارج الناتو – يعيد طرح السؤال الجوهريّ: من شريك من؟ وما معنى التحالف؟ أين تبدأ حدوده؟ وكيف تصاغ وتنتهي؟ لتأتي الإجابة كما قالها الراحل حسني مبارك: "المتغطّي بأميركا عريان".
المهم الآن أنّ القراءة السياسيّة العميقة، التي قدّمتها الدول الوازنة في الإقليم، أنتجت هذا التحوّل النوعيّ والمهم؛ فالمملكة العربيّة السعوديّة، وقبل حدث الدوحة، كانت قد اختارت مسار الهجوم الدبلوماسيّ عبر إطلاق ما عُرف بالتحالف الدوليّ، للدفع نحو حلّ الدولتين بالشراكة مع الجمهوريّة الفرنسيّة، بما تمثّله من ثقل معنويّ وتاريخيّ كبير في الساحة الأوروبيّة.
وقد استفادت الرياض وباريس من التصدّع الواضح في العلاقات الأميركيّة – الأوروبيّة، لحشد دعم متزايد داخل أوروبا تحديدا، وفي الغرب عموما، حول ضرورة الانخراط في العمليّة السياسيّة المرتبطة بصراع الشرق.
وكانت أولى ثمار هذا الحراك، اعتراف عدد من الدول الغربيّة والأوروبيّة بالدولة الفلسطينيّة، وعلى رأسها بريطانيا — دولة المنشأ، التي أسهمت يوما في صناعة هذا الصراع عبر دفعها باتجاه إنشاء الدولة الإسرائيليّة في الشرق.
هذا الانزياح العربيّ والأوروبيّ معا شكّل أحد أهمّ التحوّلات النوعيّة في مقاربة الصراع، وفي إعادة تعريف موقعه داخل هندسة الأمن الإقليمي الغائب منذ عقود خلت؛ فلم يعد العرب وسطاء يكتفون بإدارة التوتّرات، بل باتوا أطرافا فاعلين في إعادة صياغة مفهوم الأمن الإقليميّ الضامن لحل المعضلات، وفي مقدّمتها شكل النظام الفلسطينيّ المأمول كدولة، بما يحمله ذلك من دلالات على عودة الإرادة السياسيّة إلى قلب الفعل العربيّ.
أمّا أوروبا، المعنيّة بالحفاظ على مشروعها القديم في الشرق — "الدولة الإسرائيليّة" — بوصفه مشروعا استعماريّا وظيفيا، فقد بدأت تعيد النظر في أحداث الشرق من زوايا مختلفة، كردّ فعل طبيعيّ على تنامي الغضب الشعبيّ من الممارسات الإسرائيليّة، إلى حدّ رفع شعار "من النهر إلى البحر" الذي يشكّل تهديدا مفاهيميا حقيقيا لمستقبل هذا المشروع؛ وهو ما دفعها إلى مراجعة تموضعها الأخلاقيّ والسياسيّ في الشرق الأوسط، عبر محاولة إعادة التوازن بين لغة المصالح ومفاهيم المبادئ.
بهذا المعنى، نحن أمام محاولة جادّة لإعادة تشكيل وهندسة الشرعيّة الدوليّة من جهة، والمناخ الجيوسياسيّ للشرق من جهة أخرى، من دون صدام مباشر مع الولايات المتحدة، التي وجدت نفسها مجبرة على الانخراط مجدّدا في المنطقة، لا تحت ضغط الحلفاء، بل تحت وطأة فشلها في إدارة الصراعات الكبرى، وفي مقدّمتها الصراع الروسيّ – الأوروبيّ، وتراجع حضورها في الشرق أمام تصاعد أدوار أطراف أوروبيّة وإقليميّة تسعى لتوسيع نفوذها.
ومن هنا، تبرز مجدّدا أهميّة التحوّل من "فلسطنة الصراع إلى تدويله" — وهو التحوّل الذي كتبتُ عنه سابقا — بوصفه شرطا لازما لتصحيح اختلال موازين القوى، وتثبيت حقّ الفلسطينيّين في الوجود ضمن نظام عالميّ آخذٍ بالتحوّل نحو مقاربات سلميّة لحلّ الصراعات.
ليس السؤال من يحكم غزة بل من يحكم المعنى
هكذا، وبعد الانكشاف الأخلاقيّ للمنظومة الدوليّة والنظام الغربيّ معا، فتحت دول الإقليم الوازنة الأفق واسعا لاستعادة زمام المبادرة، عبر توسيع حدود المناورة السياسيّة، في محاولة جادّة لتقليص مساحة الهيمنة الأميركيّة، في ظلّ تحالفها غير المشروط مع "الدولة الإسرائيليّة".
وإن بدا في شكل العلاقة تقديم بعض التنازلات التكتيكيّة، فإنّها تبدو كممرّ إجباريّ للحفاظ على الأهداف الإستراتيجيّة؛ فالمعركة اليوم لم تعد مجرّد مواجهة مع عدوّ خارجيّ، ولا ينبغي أن تبقى مجرّد ردّ فعل، بل يجب أن تُخاض بشرط الوعي، ضدّ الخواء الذي خلّفته الهزائم المتراكمة في الوجدان العربي، وضدّ الفراغ القيميّ الذي جعل من التاريخ والحضارة العربيّة، أسيرين لمداد الخوف.
من هنا، ولأن ما طرحه الرئيس ترامب ليس مجرّد خطة لإنهاء حرب، بل شكل من أشكال التفاوض على مفاهيم الحرّيّة والسيادة والوساطة، فإنّ أوّل سُبل الانتصار هو القدرة على خوض معركة المعنى – بلا سلاح، نعم، ولكن بلا خوفٍ أيضا.