بعد شهور طويلة من الحرب الدامية على ارض غزة الحبيبة التي ابادت البشر واذابت الحجر، أعلن عن اتفاق لوقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي وحركة حماس بوساطة مصرية وقطرية وجهود تركية وبرعاية أمريكية. جاء هذا الاتفاق بعد ضغوط دولية مكثفة مراثونية ، ووسط حالة إنسانية كارثية يعيشها القطاع المحاصر. ومع بدء سريانه، تنفّست غزة الصعداء، لكن المشهد على أرض الواقع أكثر تعقيدًا مما يبدو للمشاهد ، هناك بين الركام والحطام ورائحة الدماء مشهد تختلط فيه ملامح الفرح بالنجاة وأسئلة كبرى حول المستقبل.
المرحلة الأولى: الصمت سيد المشهد
مع اللحظات الأولى لدخول وقف اطلاق النار حيز التنفيذ لتطبيق الهدنة، خيّم على القطاع هدوء غير مألوف لم يعتد عليه اهلنا في غزة. توقفت أصوات القصف والانفجارات، وبدأت القوات الإسرائيلية بالانسحاب التدريجي من بعض المناطق داخل غزة الى محيط المدن كمرحلة اولى من تنفيذ الاتفاق، خصوصًا في الوسط والجنوب. من جهتها اعلنت حماس التزامها بالاتفاق، لكنها شددت في الوقت ذاته على أن “وقف النار لا يعني نهاية المقاومة”. على الجانب الإسرائيلي، سادت أجواء ترقّب وحذر، حيث أبقت القيادة العسكرية قواتها في حالة استعداد تحسبًا لأي خرق من الجانب الفلسطيني حسب اعلان جيش الاحتلال.
ملف الأسرى والمخطوفين: عصب الاتفاق ومقياس النجاح ب72 ساعة
تعتبر علمية تبادل الاسرى من أبرز بنود الاتفاق، التي ستجري بإشراف دولي وغطاء من الصليب الأحمر وبهدوء بدون اي مراسم او مشاهد كما اعتدنا عليه سابقا. وحسب ما تم الاتفاق عليه فإن حركة حماس سوف تفرج عن المختطفين الإسرائيليين مقابل دفعات من الأسرى الفلسطينيين. وتجدر الاشارة الى ان الصفقة حملت طابعًا إنسانيًا، لكنها في الجوهر كانت خطوة سياسية عميقة لعب على وترها الرئيس الامريكي دونالد ترامب والوسطاء الاوروبيين كنوع من التماشي مع الضغوط الشعبية التي تعرضت لها حكوماتهم على مدار الشهور الماضية.
فتح المعابر.... شريان الحياة
حسب ما تم الاعلان عنه بالمرحلة الاولى من اتفاق وقف اطلاق النار سيتم فتح 5 معابر باتجاه قطاع غزة من ضمنها معبر رفح بإتجاه مصر وسيتم السماح بدخول 400 شاحنة يوميا بحد ادنى تشمل شاحنات الغذاء والوقود والمستلزمات الطبية، وبدأت فرق الأمم المتحدة والهلال الأحمر توزيع المساعدات على الأحياء المدمّرة. لكن حجم الكارثة يفوق كل الإمكانيات. وحسب اعلان الامم المتحدة هناك 170 الف طن من مختلف انواع المساعدات تنتظر التنسيق الاسرائيلي لاتمام عملية ادخالها بشكل عاجل لقطاع غزة للمساهمة في سد حاجة اهل غزة المجوعين ودعم مستشفيات غزة باحتياجاتهم.
من سيحكم غزة؟ ما نجهله عن اتفاق غزة
ربما أخطر ما لم يتضمنه الاتفاق هو تفاصيل المرحلة التالية وهي مرحلة جوهرية لا تقل اهمية عما سبقها الا انها ستخضع لمفاوضات لاحقة مما يبين الفراغ السياسي الذي يواجه قطاع غزة حاليا. ففي ظل تراجع سلطة حماس العسكرية وتآكل بنية الحكم المدني، عاد الحديث عن “اليوم التالي للحرب”. الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدفعان نحو إدارة مدنية (تكنوقراط) انتقالية، اما اعلان الرئيس الامريكي فقد ربط تولي السلطة الفلسطينية السلطة في قطاع غزة بجملة من الاصلاحات التي طالما تم الاشارة اليها في عدة مواقف. من جانبها اكدت حركة حماس رفضها التهميش وتؤكد أنها جزء من أي حل سياسي قادم.
إعادة الإعمار: طريق طويل محفوف بالتجاذبات
التقديرات الأولية تشير إلى أن 80% من البنية التحتية لقطاع غزة مدمرة بالكامل والاولوية اليوم بعد ادخال المساعدات الانسانية هي خطة ازالة الركام علما ان تقارير الامم المتحدة والبنك الدولي قدرت تكلفة إعادة إعمار غزة تتجاوز 52 مليار دولار. مؤتمرات دولية للتحشيد المالي بدأت التحضير في القاهرة والدوحة، لكن التمويل مرتبط بشروط سياسية وأمنية.
ما تجدر له الاشارة اننا اليوم في افضل وقت لحشد دولي لاجبار اسرائيل على دفع تعويضات لاهل غزة مثلما اجبر المجتمع الدولي المانيا دفع التعويضات لليهود .
البعد الإقليمي والدولي: التقاء المصالح و توازن ادوار
يبدو ان مصر استعادت موقعها كوسيط رئيسي في الملف الفلسطيني، وقطر لعبت دورًا محوريًا في التهدئة وتأمين الدعم المالي والإنساني. الولايات المتحدة اعتبرت الاتفاق “نقطة تحول”، لكنها لم تقدّم بعد خطة واضحة للمرحلة التالية حيث انها مازالت تستخدم ادواتها الاقليمية لفرض سياستها في حماية دولة الاحتلال .
في النهاية : سلام مؤقت في انتظار حل دائم
ان ما وصل له اتفاق وقف اطلاق النار هو اعادة انتشار فقط حتى الان ومحاولة لعدم الوصول الى التماس المباشر لتثبيت الاتفاق واعطاء فرصة لمعالجة الوضع الانساني في القطاع وهنا نشير الى ان الهدنة الحالية لا تعني نهاية عامين من الحرب، بل بداية معركة جديدة لتحديد مستقبل غزة. فبين أطلال المدن المدمّرة، تُكتب الآن ملامح مرحلة انتقالية حساسة سيُحدّد فيها شكل السلطة ونمط الإعمار.