في السياسة أخطاء قابلة للتصحيح، وأخرى تقود أصحابها إلى مسار بلا عودة. ما فعله نتنياهو خلال العامين الأخيرين ينتمي إلى الصنف الثاني. الرجل الذي تسلّق سلّم السياسة الإسرائيلية لعقود، وروّج لنفسه على أنه "المنقذ" و"الساحر" لشعب إسرائيل، والقادر على إدارة الأزمات ونسج التحالفات، يقف اليوم عاريًا أمام العالم. لم تعد صورته صورة القائد المحنّك، بل رمز الغطرسة والعمى السياسي. وإسرائيل التي اعتادت أن تفرض روايتها على الغرب وتخترق عواصم العالم، ونتنياهو الذي حقق على مدار أعوام اختراقات في دول عربية وغربية وأفريقية وبنى تحالفات غير متوقعة، يجدون أنفسهم اليوم في عزلة متصاعدة بعد أن خسرت ما لا يمكن استعادته بسهولة: الرأي العام العالمي.
خلال أقل من سنتين، تمكّن نتنياهو من تبديد رصيد سياسي ودبلوماسي بُني على مدى عقود. حرب الإبادة على غزة كانت لحظة مفصلية، إذ قرر نتنياهو التعامل معها كفرصة لتصفية حساباته مع العرب والفلسطينيين، ظنًا منه أنه قادر على توحيد الداخل الإسرائيلي خلف قيادته. إلا أن حساباته انقلبت عليه؛ فالمجازر اليومية، والدمار الشامل، وتحويل غزة إلى ركام، ومشاهد الجوع والخراب، لم تمر مرور الكرام هذه المرة.
العالم لم يعد يبتلع الرواية الإسرائيلية القديمة عن دولة صغيرة تدافع عن نفسها. المشهد بدا صارخًا أكثر من أي وقت مضى: قوة نووية مدعومة من عدة دول، على رأسها الولايات المتحدة، تفرض حصارًا خانقًا وتقصف بلا رحمة شعبًا محاصرًا يتضور جوعًا، وتهدم المباني بشكل انتقامي يوميًا. من هنا بدأ التحوّل، بدءًا بالمظاهرات في الجامعات الغربية، والاحتجاجات في شوارع لندن وروما وباريس ونيويورك. لم تكن تلك الاحتجاجات عابرة، بل كانت إعلانًا واضحًا لتغير جذري في صورة إسرائيل في عيون الرأي العام.
كان ظهور نتنياهو قبل أيام في الهيئة العامة للأمم المتحدة شاهدًا على ما سيأتي في هذا المقال. ظهر وهو يكرر الأكاذيب ذاتها بوجه مرتبك، لكن المشهد الأبرز لم يكن في كلماته، بل في القاعة شبه الفارغة التي عكست عزلة غير مسبوقة لإسرائيل ولقائدها، حيث بات يخاطب مقاعد خالية أكثر مما يخاطب قادة العالم.
في 8 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2023، استفاقت إسرائيل على إجماع دولي غير مسبوق؛ دول الغرب، حلفاؤها في المنطقة، وحتى خصومها التقليديون اصطفّوا خلف روايتها ومنحوها غطاءً استثنائيًا. لكن بعد عامين فقط، يجد نتنياهو نفسه في موقع معاكس تمامًا: الحلفاء في حالة برود، لا يجد دعمًا سوى من الولايات المتحدة وترامب، فيما يتراجع شركاؤه تباعًا خطوة بعد أخرى، والمشروع الكبير للتطبيع مع السعودية تعثّر ليتحول إلى سراب، بالتزامن مع تتابع الاعترافات بالدولة الفلسطينية، وصدور تصريحات غير مسبوقة لقيادات ورؤساء دول ضد إسرائيل وجرائمها في غزة.
حتى أحد أقرب حلفاء نتنياهو، الرئيس الأرجنتيني الذي كان يعوّل عليه لإظهار أن الأمور تحت السيطرة دوليًا، رفض استقباله في زيارة مقررة مسبقًا. فقد رأى أن تلك الزيارة قد تضر بشرعيته مع اقتراب انتخابات البرلمان الأرجنتيني، وقد تكلّفه ثمنًا سياسيًا باهظًا نتيجة دعمه لإسرائيل. وهكذا تحوّل نتنياهو إلى عبء حتى على حلفائه، بعد أن كان في السابق محور تسابق القيادات العالمية على لقائه وبناء العلاقات معه، سرًا وعلانيةً.
بدل أن يكون "صانع شرق أوسط جديد"، تحوّل إلى عبء إقليمي وغربي، وصار يُنظر إليه ككاذب ومتهور جرّ بلاده إلى عزلة خانقة. هذه الخسارة تتجاوز موازين القوة، لتصل إلى التحوّل العميق في الرأي العام العالمي، حيث باتت إسرائيل تُعامَل في نظر العالم كدولة مارقة، تفقد شرعيتها وتخسر الدعم الدولي الذي اعتبرته يومًا رصيدها الإستراتيجي.
الأخطر أن نتنياهو لا يراجع نفسه، بل يزداد تصلبًا وتعنتًا وغطرسة. سياساته لم تتغيّر؛ ماضٍ في المزيد من الاستيطان في الضفة والتهديد بالضم، والتضييق والملاحقة ضد الفلسطينيين في الداخل، وتحالفاته مع أقصى أطراف اليمين الديني والقومي، ورفضه التعامل مع أي طرف فلسطيني، وصولًا إلى التحريض على أبو مازن نفسه ومحاصرة السلطة الفلسطينية باستمرار. هذه الغطرسة تمنعه من رؤية الحقيقة البسيطة أن إسرائيل تنزف يوميًا ما تبقى لها من شرعية.
الغطرسة ليست مجرد سلوك فردي، بل هي عقلية سياسية كاملة. النخبة الإسرائيلية تعتقد أنها قادرة على الاستمرار في القمع والاحتلال إلى ما لا نهاية، وأن العالم سيغضّ الطرف عنها مهما فعلت. غير أن السنوات الأخيرة أثبتت سقوط هذه المعادلة. فالرأي العام الغربي والعالمي تغيّر، والإعلام الذي كان يومًا ما منحازًا بالكامل لإسرائيل لم يعد قادرًا على تجاهل فداحة الجرائم.
أحد أهم التحولات التي كشفتها هذه الحرب هو تغيّر وعي الشعوب. ورغم أننا كفلسطينيين دفعنا أثمانًا هائلة، وغزة تتعرض لأبشع الجرائم في التاريخ السياسي الحديث، ولا أعرف إن كان ثمة ما يمكن أن يعوضنا عن هذه الخسائر والوجع اليومي وآلاف الشهداء والجرحى والأيتام، إلا أن مشاهد الملايين التي خرجت إلى الشوارع أعادت الأمل رغم الألم. هؤلاء الملايين خرجوا عن قناعات راسخة ووعي عميق بقضية فلسطين، لا بدافع تضامن إنساني عابر. وهذا التحول ليس مجرد تفصيل رمزي، بل يعني أن أي حكومة غربية ستجد نفسها مضطرة مستقبلًا لمجاراة هذا المزاج الشعبي. لقد أصبح دعم إسرائيل عبئًا سياسيًا، بعدما كان من بديهيات السياسة الغربية، حتى أنهم أقنعوا العرب أنفسهم بأن مصلحتهم مع إسرائيل. وقد ساهم نتنياهو كثيرًا في ذلك قبل أن يعجّل بنفسه في نقضه بغطرسته، حين استهدف عاصمة عربية لعبت دور الوسيط وساهمت في تحرير الأسرى الإسرائيليين في الحرب الأخيرة.
صحيح أن الولايات المتحدة، صاحبة القوة العسكرية الأكبر في العالم، ما تزال تمنح إسرائيل الغطاء العسكري والسياسي، لكن هذا الغطاء بدأ يهتز. أصوات عديدة وجهات نافذة حتى داخل الحزب الجمهوري باتت تنتقد إسرائيل علنًا وترى في دعمها عبئًا، بل وتطالب بوقف المساعدات العسكرية. أما الجامعات الأميركية، خزان النخب السياسية المستقبلية، فقد لعبت دورًا مركزيًا في إطلاق أكبر حركة تضامن مع فلسطين في التاريخ الأميركي. وهو ما يعني أن المستقبل السياسي في واشنطن لن يكون كما كان في السابق، رغم جنون ترامب وتقلباته اليومية واضطرابه النفسي والسياسي.
الغباء الإستراتيجي لنتنياهو يتجلى في اعتقاده أن القوة العسكرية تكفي لضمان شرعية دائمة. لكن الحقيقة أن العالم يتغير، ولم تعد الدبابات والطائرات وحدها قادرة على فرض مكانة في ظل الجرائم المستمرة التي تُرتكب على مرأى ومسمع العالم بأسره. اليوم، المعركة باتت على الصورة الأخلاقية والسياسية أمام العالم، وإسرائيل فقدت هذه الصورة بالكامل، لتتحول إلى دولة نموذجية في الجرائم والتجويع والتدمير والعدوانية في القرن الحادي والعشرين.
قد ينجح نتنياهو في استكمال فترة حكمه حتى نهايتها عبر الحفاظ على حلفائه وتقديم تنازلات لسموتريتش وبن جفير بمزيد من العداء والاستيطان والضم ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة والداخل، لكن ذلك لن يغيّر حقيقة أن إسرائيل في عهده تخسر معركتها الأهم: الشرعية الدولية. وكلما طال أمد هذه السياسات، تعمّقت صورة إسرائيل كدولة منبوذة. ولا شيء أخطر على دولة من أن تخسر ثقة العالم، خصوصًا إذا كانت قد قامت أصلًا بدعم من هذا العالم والغرب تحديدًا.
في النهاية، قد يظن نتنياهو أنه قادر على شراء الوقت، وأن العالم سينسى كما كان يحدث في السابق. لكن ما جرى خلال العامين الأخيرين أثبت العكس: هناك وعي جديد يتبلور، وحقيقة ثابتة ترسخت؛ إسرائيل لم تعد الضحية بل أصبحت الجلّاد. ونتنياهو، بغطرسته وعماه السياسي، هو الذي قادها إلى هذا المأزق.
لقد خسر الرجل العالم كله تقريبًا خلال أكثر من 700 يوم منذ بداية حرب الإبادة، ومع ذلك يصرّ على النهج نفسه. تلك ليست مهارة سياسية ولا دهاءً إستراتيجيًا، بل غباء تاريخيًا سيدفع ثمنه الإسرائيليون أولًا. وهو ما يشكّل واقعًا سياسيًا ودوليًا جديدًا تعود فيه القضية الفلسطينية إلى الواجهة، بفضل تعنت وجرائم نتنياهو والإسرائيليين. كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا الدماء التي سالت، والتضحيات الجسام التي قدّمها الفلسطينيون، وآلاف الشهداء والجرحى والمفقودين في غزة، والأثمان الباهظة التي دفعها وما يزال يدفعها أهلنا هناك. ولعل ما يعنيهم اليوم قبل أي شيء هو وقف الإبادة والمعاناة والنزوح فورًا، واستعادة الحياة.