تتوالى المواقف الدولية تجاه الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية كمرآة تعكس تناقضاً صارخاً بين الشعارات المعلنة والممارسات الفعلية فبعض الدول التي بادرت مؤخراً إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية – بعد أكثر من قرن من الانتظار – ما زالت تضع شروطاً مسبقة لأي خطوة عملية: الإفراج عن أسرى إسرائيليين قبل فتح السفارات، وقف مخصصات الأسرى الفلسطينيين، تعديل المناهج، واستبعاد حركة حماس من أي حكومة فلسطينية مستقبلية شروط تتدثر بعباءة القيم لكنها في جوهرها انتقائية وتغيب عنها العدالة الإنسانية والموضوعية.
الاعتراف بالدولة الفلسطينية خطوة مهمة لكن توقيته وحده يشي بالكثير كيف يمكن الاحتفاء بقرار تأخر مئة وثماني سنوات بينما سقط منذ عام 1917 آلاف الشهداء والأطفال الأبرياء وهجر الآلاف اللاجئين ويسقط الآن في غزة يومياً عشرات آلاف المدنيين بينهم أكثر من 16 ألف طفل فلسطيني ويُقتل العديد من النساء وكبار السن والأطباء والصحفيين و نزح كل الشعب في غزة لأكثر من عشر مرات خلال الحرب المستمرة منذ عامين بينما يحرص الإعلام الدولي وبعض الحكومات على ذكر مقتل خمسين طفلاً إسرائيلياً فقط؟ إن هذا الاختلاف في التغطية يكشف ازدواجية في المعايير حيث تُقدر أرواح بعض الضحايا أكثر من الآخرين وتتجاهل مأساة المدنيين الفلسطينيين رغم حجم الكارثة الإنسانية.
على صعيد الأسرى يظل التباين واضحاً فمطالبة بعض الدول بوقف رواتب الأسرى الفلسطينيين الذين قاوموا الاحتلال تُغفل الحقيقة الأساسية: هؤلاء الأسرى نفّذوا أعمالاً وفق القانون الدولي ويعتبرهم شعبهم مناضلين أدوا واجبهم المقدس في مواجهة احتلال مستمر بينما يُربط أي إفراج عن الأسرى الإسرائيليين بشروط سياسية ويظل صوت الدول صامتاً تجاه آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين يعيشون ظروفاً قاسية في السجون الاسرائيلية ومضى على بعضهم أكثر من أربعين عاماً هذا المعيار المزدوج يطرح سؤالاً أخلاقياً بليغاً : كيف يمكن الحديث عن حقوق الإنسان بينما تُغفل حياة الفلسطينيين أطفالًا ونساء وأسرى الحرية؟
ثمّة تناقض آخر في مطالبة بعض الحكومات بتعديل المناهج التعليمية الفلسطينية وكأن المطلوب هو محو الذاكرة التاريخية للشعب الفلسطيني ووقف تعليمه حقه في الأرض وحق تقرير المصير وفق القانون الدولي والإنساني وفي المقابل لا يطالب أحد بتعديل المناهج الإسرائيلية التي رسخت عقائد عنصرية وأنتجت جيشاً وقيادة أثبتت تقارير دولية عناصره بارتكاب جرائم حرب وتغذي هذه المناهج ثقافة العنف ضد المدنيين الفلسطينيين وضد كل من ليسوا صهاينة بما فيهم الأطفال والنساء والحوامل والأطباء و السؤال البسيط هنا: من الأجدر أن يُراجع مناهجه؟ من يربّي شعبه على مقاومة الاحتلال وحقه في الأرض أم من يغذي ثقافة القتل والاحتلال والاستعمار؟.
أما الجانب السياسي فإن شرط بعض الدول بعدم مشاركة حماس في الحكومة الفلسطينية يمثل تدخلاً صريحاً في الشأن الداخلي و التاريخ السياسي الفلسطيني يظهر أن الفصائل تتجه إلى العمل السياسي السلمي متى توفرت دولة مستقلة وأُحترمت سيادة الشعب كما فعلت حركة فتح بعد سنوات من الكفاح المسلح و مطالبة الفلسطينيين بالتخلي عن المقاومة أو استبعاد فصيل دون إنهاء الاحتلال واستمرار الاستيطان واقتحام المقدسات هو مطلب متناقض مع القانون الدولي والقيم الديمقراطية ولا يؤدي إلى سلام حقيقي وفي المقابل لا تشترط تلك الدول انهاء الاحتلال و الاستيطان و عدم مشاركة مجرمي الحرب من الجنود والمسؤولين الإسرائيليين في الحكومة الإسرائيلية أمثال نتنياهو وسموترتش وبن غفير فمقبول لهم هذا ؟؟ عن أي قيم وأخلاق وقانون يتحدثون؟.
هذه التناقضات جميعها تكشف ما وراء الخطاب الرسمي لهذه الدول : حسابات سياسية ضيقة تُغلف بحديث عن حقوق الإنسان والعدالة لامتصاص غضب شعوبهم و اهداف اخرى منها منح الاحتلال الوقت لتنفيذ مخططاته بينما تستمر و تُهمل الكارثة الإنسانية على الأرض الفلسطينية في غزة و الضفة ، السلام الحقيقي لا يُبنى على مقايضة الحقوق بالمصالح السياسية ولا على ازدواجية المعايير بل يبدأ بوقف القتل فوراً وحماية المدنيين والأطفال ورفع الحصار ومنع حرب التجويع ومساءلة كل من انتهك القانون الدولي ثم بعملية سياسية متكافئة تعترف بحقوق الجميع الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء.
إلى أن يحدث ذلك يبقى السؤال مُلحّاً : أين هي القيم التي تتشدّق بها العواصم الكبرى بينما يُقتل الأطفال الفلسطينيون على نطاق واسع وتصمت وتُهمل آلاف الأسرى الفلسطينيين منذ عقود؟ الوقائع الإنسانية على الأرض لا تحتمل الانتظار أو الشروط السياسية يجب وقف القتل فوراً وحماية المدنيين والأطفال ووقف حرب التجويع وإدخال المساعدات الإنسانية وإعمار البيوت قبل حلول الشتاء قبل أي حوار أو حلول نهائية قبل أي تفاوض سياسي قبل أي شروط و الإجابة تأتي لهم صامتة من مشاهدة القصف المستمر وجثث الأطفال المتناثرة يومياً ومن صراخ الأطفال تحت الركام ومن بين البيوت المهدمة والطرقات المحاصرة ومن ذاكرة شعبٍ لا يريد أن تُمحى حقائقه و حقوقه مؤكدة أن أي تأجيل للعدالة الإنسانية يعني استمرار الكارثة واستنزاف الأرواح بلا رحمة.
وعلى الجميع أن يسمعوا صوت شعب فلسطين الذي يطالب بما هو واضح وملموس: أعطونا دولة بحدود وفق القانون الدولي وأماناً لشعبنا وأزيلوا المستوطنات وأنهوا الاحتلال بعد ذلك يمكنكم وضع ما تشاؤون من شروط لخدمة السلام الدائم والاعتراف بدولتنا نتركه لكم و نفذوه وقتما تشاؤون هذه ليست مطالب سياسية جزئية بل أساس العدالة والسلام ونقطة البداية الحقيقية لأي حل دائم يحترم حقوق الإنسان والكرامة الوطنية وما قيمة الاعتراف إذا استمرت المحرقة .