صدى نيوز -حطم سعر الذهب في الآونة الأخيرة مستوى قياسياً مستمراً منذ أكثر من أربعة عقود، بعد تعديله وفقاً للتضخم، فعند المستويات الحالية، تجاوزت القوة الشرائية للذهب ذروتها المسجلة في يناير 1980 عند 850 دولاراً، أي 3524 دولاراً بالقيمة الحالية.
هناك عاملان يتهمان في العادة عند ارتفاع أسعار الذهب؛ الخوف من التضخم، والخوف من التقييد المالي، كما في حالة العقوبات أو فرض قيود على رأس المال. وقد بلغا أوجهما في يناير 1980، عندما ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين (في الولايات المتحدة) 13.9% على أساس سنوي، وبعدما جمد الرئيس جيمي كارتر الأصول الإيرانية في نوفمبر السابق.
غير أن العاملين المشتبه بهما قدما أدلة البراءة في 2025؛ فأسعار الذهب لم تتجه إلى الصعود أو الهبوط منذ بداية الجائحة حتى نهاية أكتوبر 2022، لكنها بدأت ترتفع باستمرار منذ ذلك الحين. أما معدل التضخم، فبلغ الذروة عند 9.1% في يونيو 2022، لكنه تراجع إلى 7.7%، وآخذ في التباطؤ. ووصلت عتبة الربحية للسندات لأجل 10 سنوات- بشكل عام هي توقع الأسواق المالية لمتوسط معدل التضخم خلال العقد المقبل- إلى أعلى مستوياتها عند 3.04% في أبريل من ذلك العام، وتراجعت إلى 2.51% بنهاية أكتوبر.
تكلفة مرتفعة لحيازة الذهب
فضلاً عن ذلك، من الصعب إلقاء المسؤولية على تزايد التوترات الدولية أو الغطرسة المالية الأميركية. فقد غزت روسيا أوكرانيا للمرة الثانية في أوائل 2022، وسرعان ما توالت عليها العقوبات بعدها. لكن الاهتمام تراجع بحلول أكتوبر. ولن يحدث هجوم حركة حماس على إسرائيل إلا بعد عام من هذا الشهر. لم تكن هناك أحداث دولية، أو سياسية، أو مالية في ذلك الحين.
كل سعر هو نسبة في جوهره، فإذا لم يكن ارتفاع الذهب ناجماً عن ضغوط يواجهها الدولار، ربما يكون السبب هو زيادة جاذبية الذهب، وليس تراجع جاذبية الدولار. كما أن تكلفة حيازة الذهب مرتفعة، إذ تقارب 0.5% سنوياً في صناديق الذهب المتداولة، أما في حالة شراء ذهب مادي، فهناك تكاليف التخزين والتأمين، وترتفع هذه التكلفة في حالة تجديد عقود الذهب الآجلة.
في الوقت نفسه، لا يحصل المستثمر على العائد الحقيقي الإيجابي الذي يمكن تحقيقه من الأصول الأخرى، والطريقة الأيسر لتقدير هذه الخسارة هي متابعة العائد على سندات الخزانة المحمية من التضخم لأجل 10 سنوات، إذ تضمن حالياً عائداً أعلى من معدل التضخم بنسبة 1.67%، بالتبعية، فمن يملك أونصة من الذهب في صورة صندوق متداول يتخلى عن دخل محتمل بنسبة 2.17%، أي 79 دولاراً سنوياً.
حين طالب مالكو الذهب بتعويضهم
قبل السؤال عما سيستفيده المستثمرون في الذهب من 79 دولاراً سنوياً، لننظر إلى القيمة المُقدرة لامتلاك أونصة من الذهب بمرور الوقت، مُعدلة وفقاً للتضخم لتعكس القيمة الحالية بالدولار.
رغم أن سعر الذهب كان آخذاً في الارتفاع منذ بداية 2018 حتى تفشي الجائحة، فإن القيمة المُقدرة لامتلاك أونصة من الذهب كانت تنخفض، وتحولت إلى الجانب السلبي في يونيو 2020، ولم تعد إلى الجانب الإيجابي حتى أبريل 2022. وخلال هذه الفترة، طالب المستثمرون بتعويضهم عن حيازة الذهب، بدلاً من الوضع المعتاد، حيث يكونون مستعدين لدفع أموال لاقتنائه. وحقق امتلاك الذهب عائداً أعلى من شراء سندات الخزانة المحمية من التضخم بمقدار 9 دولارات سنوياً.
قبل عام من بدء ارتفاع أسعار الذهب، تبدل حال المستثمرين في المعدن النفيس، فبعدما كانوا يطالبون بتسعة دولارات سنوياً مقابل حيازة الذهب، باتوا مستعدين لدفع مبلغ وصل إلى أعلى مستوى عند 91 دولاراً لحيازته. ويرجع ذلك إلى ارتفاع عائدات سندات الخزانة المحمية من التضخم، لا ارتفاع أسعار الذهب. لكن تجدر ملاحظة أن هذا يمثل ارتفاعاً في قيمة المبلغ الذي أبدى المستثمرون استعدادهم لدفعه نظير امتلاك أونصة من الذهب، وليس ارتفاعاً في سعر المعدن النفيس.
أدوات التحوط تظهر نفس الاتجاه
الغريب أن إبان الجائحة، والغزو الروسي، والهلع من التضخم في عهد إدارة جو بايدن، أراد المستثمرون الحصول على مقابل نظير امتلاكهم الذهب، ثم عادوا إلى الاستعداد للدفع نظير امتلاك المعدن النفيس عندما استقرت الأوضاع.
رأينا النمط ذاته في أدوات التحوط الأخرى من التضخم وخطر التقييد المالي في الولايات المتحدة، مثل الفرنك السويسري و"بتكوين"، إذ لم تُبد اتجاهاً يُذكر عندما بلغ معدل التضخم أعلى مستوى له، ووصلت الضبابية المحيطة بالأوضاع السياسية إلى ذروتها، وتفاقم الوضع الدولي ليصبح بالغ الخطورة، ثم سرعان ما ارتفعت قيمة أدوات التحوط بمجرد انحسار المخاطر.
الذهب يجذب الاهتمام عن الأسهم
ماذا لو كان الذهب هو مجرد يد الساحرة اليمنى التي تصرف الانتباه عما تفعله يدها اليسرى، جاذبية امتلاك استثمارات في محفظة رئيسية مثل مؤشر "إس آند بي 500"؟
يوضح الرسم البياني التالي عائد الأرباح المُعدلة دورياً لمؤشر "إس آند بي 500" مطروحاً منه عائد سندات الخزانة المحمية من التضخم لأسهم تعادل قيمتها سعر أونصة من الذهب. وجرى عكس الخط لتمكن مقارنته بالرسم البياني المصاحب للذهب. في قمة الرسم البياني يكون المستثمرون مستعدين لدفع مقابل كبير نظير امتلاك الذهب، ولا يقبلون سوى مقابل ضئيل نظير امتلاك الأسهم، وفي قاع الرسم البياني يطالب المستثمرون بالحصول على مقابل كبير نظير امتلاك الذهب أو الأسهم.
يبدو الخطان متشابهين، كلاهما ينخفض قبل جائحة كورونا، وإن كانت وتيرة تراجع الأسهم أسرع مقارنةً بالذهب. تعافت الأسهم على الفور عند تفشي الجائحة (طالب المستثمرون بمبلغ أكبر نظير امتلاك الأسهم)، بينما لم يطرأ تغيير يُذكر على الذهب حتى منتصف 2022. ومنذ ذلك الحين تفوق الذهب على الأسهم.
إذا كان المستثمرون يخشون التضخم، كان يجب أن ترتفع عتبة الربحية، لكنها تتحرك في نطاق ضيق خلال 2025، بدءاً من 2.17%، ومروراً بـ2.47%، ووصولاً إلى 2.37% نهاية الأسبوع الماضي.
تغيرات معدل العائد الحقيقي وراء ارتفاع السعر
الواضح أن القوة الدافعة الرئيسية لكلٍ من مؤشر "إس آند بي 500" وأسعار الذهب تتمثل في التغيرات في معدل العائد الحقيقي، وهو ما يطالب به المستثمرون لامتلاك الأصول الآمنة المحمية من التضخم. وحيث يتراجع هذا المعدل خلال 2025، لم يطرأ تغير كبير على القيمة التي يتوقعها المستثمرون لامتلاك الذهب، لذا، حلق سعره.
فإذا كنت مستعداً لدفع 90 دولاراً سنوياً مقابل أي مكسب ستحققه من امتلاك أونصة من الذهب، مع تراجع معدلات العائد الحقيقي، ستكون مستعداً لدفع مبلغ أكبر نظير هذه الأونصة. في المقابل، خفض المستثمرون في الأسهم المعدل المتوقع للعائد الحقيقي مع تراجع عائدات سندات الخزانة المحمية من التضخم، وارتفع مؤشر "إس آند بي 500"، لكن 12% فقط.
نظراً لعدم القلق من التضخم، تشير التغيرات الكبيرة في العائد الحقيقي المتوقع على الأسهم، وليس الذهب، إلى مخاوف من الركود. ولفهم الأسواق في الفترة الحالية، علينا متابعة سندات الخزانة المحمية من التضخم والأسهم. ربما يكون بريق الذهب جذاباً، لكن البريق قد يصرف الأنظار عن المعطيات الأساسية.