لا تبدو الصور التي خرجت في أواخر آب/ أغسطس 2025 لزيارة الحاخام موشيه كلاين ورجل الأعمال دوف بليخ إلى دمشق مع صلاة في الكنيس المركزي، ثم الوقوف عند مقبرة اليهود وزيارة قبر الحاخام حاييم فيتال، بروتوكولية فحسب، لكنها في سورية ما بعد 2024 تشتغل كاختبار حدود: إلى أي مدى يمكن تمرير حضور رمزي-ديني بوصفه استئناف تاريخ في مدينة كانت لعقود رمزًا لممانعة إسرائيل. الجديد هنا ليس الفعل الشعائري بحد ذاته، بل تسويقه كسابقة (أول صلاة منذ 2011) بما يخلق قابليةً للتكرار واتساع الهامش لاحقًا أمام حزم زيارات وتمويلات وترميمات تحت عنوان إحياء التراث. هذا التأطير ظهر بوضوح في تغطيات يهودية/إسرائيلية جعلت من الحدث محطةً تاريخيةً مصغّرة تشرعن ما بعدها، لا سيما مع إبراز تقلّص الجماعة اليهودية المحلية إلى مجموعة من المسنّين الهرمين الذين ليس لديهم تأثير في المشهد العام في دمشق، الأمر الذي يلبّي سردية الإنقاذ قبل الفوات. عمومًا، شهد النصف الأول من 2025 بالفعل تتابع وفود يهودية سورية أو أميركية إلى دمشق، إمّا للصلاة أو للزيارة في الأحياء والكنس والمقابر التي كانت سكنهم يومًا ما. هذه الحركة لم تقدّم كاستثناء، بل كجزء من عودة رمزية بعد سقوط نظام الأسد، مع إبراز إعلامي لفكرة الفرص الجديدة أمام حضور ثقافي-ديني علني في سورية. في هذا السياق، يصبح تشكيل السردية هو الفعل السياسي: كلّ خبر وصورة يعيدان تعريف المعنى في ذهن الجمهور السوري والعربي من مشهد العدو إلى مشهد الزائر الحامل لذاكرة. وتتزامن هذه الحركة مع تآكل تدريجي لكلفة الاعتراض المحلي من السوريين حين يحاط الخطاب بعبارات الترميم والحماية والإنقاذ والإنسانية والتسامح؛ وصولًا إلى "لا مشكلة في التطبيع".
بوابة الدخول
تحوّلت واقعة تدنيس قبر الحاخام حاييم فيتال (نيسان/ أبريل 2025) إلى محرّك سرديّ مفصلي استخدم ببراعة لإعادة فتح بوابة الحضور اليهودي في دمشق؛ فقد صوّرت الحادثة أولًا كتهديد مباشر لتراث يهوديّ سوري، ثم رفعت مناشدات إلى السلطات لحماية المواقع، وأخيرًا جرى تحويلها إلى ذريعة لتكثيف الزيارات وتثبيت حضور شعائري وإعلامي متواتر. ومع كل دورة تغطية يتكرّس قالب أخلاقي يلبس السياسة لبوس الواجب الثقافي، فيصبح كلّ زائر حاميًا للتراث، وكلّ ترتيب بلدي استجابةً إنسانية، لا خطوةً سياسية باتجاه تموضع دائم. بهذه الحيلة اللغوية ينزلق النقاش من حيّز السيادة إلى حيّز العاطفة، ويعاد إدخال السياسة من باب الأخلاق ذاتها: حماية تستدعي تنسيقًا؛ تنسيق يقتضي نقاط اتصال، نقاط اتصال تنجب اتفاقات وأطر تعاون، فتتحوّل لحظة الاستنكار إلى ممرّ منظّم لإعادة الدخول عبر مسار منخفض الاحتكاك يراكم حقوق وصول وروتينًا شعائريًا يسهل تقنينه لاحقًا. وبذلك تستثمر الجريمة -على فجاجتها-لا لمحاسبة المعتدين وحسب، بل لتأسيس شرعية ناعمة لحضور متعاظم، يعاد تعريفه في الوعي العام باعتباره عملًا إنقاذيًا ضروريًا، بينما هو عمليًا مدخل إستراتيجي لإعادة التمركز داخل ذاكرة المدينة وفضائها العام.
تعاطٍ إعلامي ترويجي
بمراجعة تغطية المنصّات العبرية، الدينية والإخبارية السياسية، لدمشق، لا نواجه مجرد خبر، بل هندسة سردية متقنة تبنى طبقةً فوق أخرى: تستعاد الصلاة في الكنيس المركزي كعودة صوتية بعد انقطاع طويل، وتصاغ العبارة المفتاحية "أول مرة منذ 2011" بوصفها مرساةً زمنيةً تمنح واقعةً شعائريةً محدودةً حجمًا تاريخيًا مضخّمًا. هكذا تتحول اللحظة إلى سابقة، والسابقة إلى ذريعة لتكرار محتمل، وتكرار يمهّد لاحقًا لانتقال من الحضور الرمزي إلى الحضور المؤسسي.
في السياق نفسه، تدير التغطية بلاغة الصورة بكفاءة: صور موشيه كلاين ودوف بليخ داخل كنيس الفرنج لا تعرض كتوثيق إنساني فحسب، بل تربط بلغة المشروعات والتوثيق العالمي للتراث كي ترفع من مستوى الإيماءة الروحية إلى برنامج عمل ثقافي-مؤسسي. تصبح اللقطة الفوتوغرافية بمثابة عقد اجتماعي مصغّر: نحن هنا لا نزور فقط، بل نؤسّس لمسار؛ لا نتذكّر فقط، بل نعيد تشغيل الذاكرة في حيّز تنظيمي مستدام. فعليًّا تظهر تقنية الندرة الملحّة: زيارات منظّمة لسوريين-أميركيين للصلاة عند قبر الحاخام فيتال، تترافق مع لازمة تتكرر بإيقاع واحد: المجتمع اليهودي المحلي تقلّص إلى خمسة أو ثمانية مسنين. هذه الأرقام القليلة تضخ في النصوص باعتبارها مؤشّرًا على زوال وشيك، فتخلق شعورًا أخلاقيًا بالاستعجال: إذا لم نتدخل الآن، فلن يبقى ما ننقذه. وهنا ينتقل الخطاب بسهولة من حقّ الزيارة إلى واجب الإنقاذ، ومن التعاطف إلى الشرعنة، ومن الشرعنة إلى قابلية قبول اجتماعي أوسع، وبالتالي الحصول على شرعية مجتمعية داخل المجتمع السوري وحرية نفاذ إلى الداخل السوري. تتداول المواقع صورةً للحاخام على سيارة الأمن العام مع عنصر ملثم، أو صورةً ليده من شرفة فندق مطلّ على ساحة الأمويين مثلًا، أو من شارع في دمشق مع سكان محليين، أو حتى على ظهر مدرعة عسكرية؛ الأمر الذي يفتح الباب أمام تساؤلات حول وظيفة أخرى غير دينية لهذا الحاخام وغرض آخر من هذه الزيارة. بهذا الفعل، تكتمل بنية المسرح السردي عبر آلية "الأزمة-العلاج": خبر تدنيس قبر الحاخام فيتال في أبريل 2025، بوصفه لحظةً صادمة/معبّئة، يوظّف لتدوير حجّة الحماية. فجأةً تصبح كل زيارة لاحقة فعلًا تصحيحيًا: نحن لا نطبّع، نحن نرمّم؛ لسنا نطالب بحضور سياسي، بل نحمي موقعًا تراثيًا. بهذه الحركة البلاغية، ينزع الاعتراض من حيّز السياسة ويرتدي لباس الأخلاق، ثم تعود السياسة من باب الأخلاق على شكل شراكات تمويل وترميم وتوثيق. يتجاور كل ذلك مع تأطير ديموغرافي حاد: "لم يبق سوى خمسة إلى ثمانية يهود في سورية" مع إبراز شخصية محلية كـ"زعيم متبقّ". هذه الأنسنة القصوى تقدّم كعروة وثقى للذاكرة: اسم ووجه وقصة وحجر قبر ولمسة يد. إننا هنا أمام ما يمكن تسميته "الاستثارة البراغماتية الذرائعية" بصورة فرد مسنّ تغذّي منطق الاستعجال السياسي بوقود وجداني، بحيث يغدو أي تردّد محلي في الانخراط، تعاونًا أو تسهيلًا، متّهمًا بالقسوة على الإنسان والتراث.
الذاكرة كأداة سياسية
خلال العقد الأخير برزت "دبلوماسية الذاكرة" كأداة سياسية منخفضة الكلفة وعالية العائد في البيئات الهشّة أو قيد إعادة التشكّل؛ إذ تستخدم مواقع العبادة والمقابر والأرشيفات والرموز الدينية والثقافية كممرات ناعمة لخلق حضور دائم يبنى أولًا في الخيال العام ثم يتحوّل تدريجيًا إلى ترتيبات مؤسسية، عبر هندسة لغة ومشاعر ومصالح تعيد رسم قواعد اللعبة. جوهر الآلية يبدأ بتحويل الزيارة من إذن سياسي إلى حقّ معنوي تحت عناوين الوفاء للذاكرة وإنقاذ الإرث الآيل للاندثار، بحيث تصبح كلفة الاعتراض أخلاقية لا سياسية، وتختزل الخلافات في لوجستيات المواعيد والبروتوكولات؛ ويستكمل بخطاب مؤنسن يوظّف صور المسنّين والدموع ولمس أحجار القبور لتحويل الجدل السيادي إلى قضية رأفة، فيهبط عتبة الرفض وتفتح نافذة القبول الأدنى لزيارات تتكرّر وتتّسع من دون إعلان صاخب. بعدها تطرح معادلة التبادل: تمويل الترميم ورقمنة الأرشيف وتدريب الكوادر والمنح، مقابل تطبيع الحضور المؤسسي عبر موافقات دائمة ونقاط اتصال ولجان واتفاقات صيانة وإدارة؛ فتغدو الضيافة بنيةً مستقرة (مراكز توثيق، صناديق، شراكات جامعية) أي خرائط نفوذ قابلة للتسييل السياسي. وتستخدم الأزمات كمسرّع سردي، كحادثة تدنيس موقع ديني، لإلباس المسار ثوب الحماية، بحيث نصير "نحمي ونرمّم"، ومن يعترض يتهم بتفضيل الخراب. وعلى الهامش تتأسس سلاسل قيمة (مقاولات، سياحة تراث، برامج أكاديمية) تتيح تمركز أطراف خارجية، وتخلق لوبيات مصالح وتبعيةً فنيةً تتحوّل إلى رافعة تأثير. أمنيًّا وسياسيًّا تعمل هذه الدبلوماسية في المجال الرمادي: ليست اختراقًا صريحًا ولا تطبيعًا رسميًا، لكنها تكبت ردود الفعل فيما تقاس قابلية الشارع وتختبر قواعد الوصول والمرونة البروتوكولية حتى يتكوّن حقّ واقع في الحركة والتنسيق يستشهد به لاحقًا: "نحن موجودون منذ سنوات". وتهندس القابلية بتقنيات بلاغية محددة: تعظيم الزمن ("أول مرة منذ…") لصناعة سابقة تبرّر التكرار؛ وندرة ملحّة بأرقام صغيرة تولّد إحساس اللحاق بما قد يضيع؛ وأنسنة مسيّسة عبر "زعيم متبقّ/شاهد أخير" يصعب الاعتراض عليه؛ وتدوير اللوم بحيث يؤطّر التحفّظ المحلي كإهمال للتراث لا كتحفّظ سياديّ مشروع. ويمكن رصد الإنذار المبكر بارتفاع مفاجئ في منح الترميم والرقمنة للمواقع الحسّاسة، وتزايد التغطيات الإنسانية المصوّرة، وإنشاء نقاط اتصال دائمة بدل موافقات ظرفية، وتحول الزيارات إلى دورية متواترة، وطرح مسودّات اتفاقات ثقافية/جامعية/بلدية تتجاوز التقنية إلى إدارة مشتركة. ويقتضي تقليل المخاطر تقنين الزيارات بإطار سياديّ واضح ومرافقة مؤسسات وطنية، وفرض سردية تفسيرية سورية متعددة اللغات في المواقع، واشتراط محلّية التنفيذ والرقابة لتفادي التبعية، وربط أي نشاط تراثيّ عابر للحدود بموقف معياريّ ثابت من الملفات الوطنية (الجولان/فلسطين) لقطع الطريق على تحويل الذاكرة إلى إعفاء سياسي مسبق، مع بناء قدرة بحثية وإعلامية تنتج مضادّات سردية وتوضح الفروق بين الحقّ الثقافي والتطبيع السياسي.
اقتصاد خفي
يتحوّل المسار من المقبرة إلى دفتر الشيكات إلى وصف دقيق لكيفية ترجمة الرمزي إلى نفوذ اقتصادي–مؤسسي؛ فظهور رجل أعمال إلى جانب حاخام ليس تفصيلًا إعلاميًا أو إنسانيًا أو صوريًا، بل إشارة إلى معادلة مجرّبة في المغرب والإمارات وأفريقيا، حيث ينتج تمويل صيانة الكنس والمقابر ورقمنة الأرشيف شرعيةً محليةً عبر منافع ملموسة، ثم تلحم هذه الشرعية بمنظومة "اقتصاد الذاكرة" (مسارات تراثية، حرف، ضيافة ومتاحف حيّة، واقتصادات أخرى خفية) لتوليد سلاسل قيمة تدخل الفاعل الخارجي في دورة الربح والوظائف والمناقصات. ومعها تنشأ شراكات اقتصادية "إنسانية" بحجّة التعايش تمنح الغطاء الاقتصادي، وتحوّل التعاطف الروحي إلى اعتمادية تقنية وتمويلية دائمة، لتعيد إنتاج قطاع اقتصادي مرتبط بالذاكرة اليهودية. عند هذه النقطة تغدو الإيماءة الروحية بنيةً متكاملة: مراكز توثيق وصناديق ترميم واتفاقيات بلدية ومذكرات تفاهم، وما يرافقها من لوائح امتثال وتدقيق ومؤشّرات أداء ومسؤولية اجتماعية تعيد تشكيل الحقل القانوني والإجرائي للموقع التراثي بوصفه أصلًا قابلًا للاستثمار. الصور المتداولة لوجود كلاين وبليخ داخل كنيس الفرنج تنقل رسالةً مكثفة مفادها: "نحن هنا ومعنا شبكة تمويل وسردية أخلاقية جاهزة"، بما يجعل كل زيارة استثمارًا في قابلية العودة وتوسيماً تدريجيًا للحضور داخل خرائط المصالح المحلية (بلديات، أوقاف، مزوّدو خدمات، جامعات)، ويخلق مع الوقت جماعات ضغط مستفيدة تتولّى الدفاع عن استمرارية المشروع؛ فتغدو كلفة التراجع أعلى من كلفة التمكين، ويتحوّل الحضور من مشهد عابر إلى تمركز مؤسسي يصعب فكه دون كلفة سياسية–اقتصادية معتبرة.
يعدّ قطاع الشركات الأمنية وصناعة الأمن أخطر بوابة نفوذ وتطبيع مقنّع في البيئات الهشّة، لا سيما سورية في فترة الفراغ الأمني، لأنه يمنح وصولًا مباشرًا للمواقع والبنى التحتية والبيانات الحسّاسة، وينشئ حضورًا دائمًا تحت لافتة "الحماية". جاذبيته تنبع من الطلب العالي على الحراسة والمراقبة في قطاعات التراث والضيافة والطاقة واللوجستيات، لكنه يمتدّ عمليًا من تشغيل الحراس وإدارة المداخل إلى توريد المنظومات التقنية (كاميرات، تحكّم وصول، غرف عمليات واتصالات)، مع مخاطر مضاعفة في كل ما يتصل بالسايبر والبيانات. لذلك يلزم اعتماد نموذج سياديّ خانق يقصر الدور على الحراسة الساكنة ويمنع أي مهامّ شبه عسكرية أو جمع معلومات، ويحظر الملكية والسيطرة الأجنبية المباشرة أو عبر واجهات، ويضمن سيادة البيانات بتخزينها داخل البلاد بمفاتيح تشفير وطنية ومنع الرفع للسحابات الخارجية، مع حظر تقنيات التعرّف الوجهي واعتراض الاتصالات والتحليلات التنبؤية. وتدار الحوكمة بترخيص طبقي، بسقوف زمنية وجغرافية ومهامية، وتدقيق صارم للمستفيد الحقيقي ومكافحة غسل الأموال، واختبارات اختراق مستقلة، وصلاحية إيقاف فوري عند أي خرق. ولتقليل الاعتماد أصلًا، تبنى بدائل محلية: حرس مواقع عمومي بتدريب موحّد، وعقود صغيرة لدى جهات بلدية/عمومية، وحلول فيزيائية بسيطة تقلّل التبعية التقنية. الخلاصة: إن فتح هذا القطاع فبشروط سيادية محكمة؛ وإلا فهو مخاطرة سيادية صريحة ونافذة تطبيع عبر قطاع "اقتصاد الأمن".
فراغ السلطة ومزاد السرديات
منذ ديسمبر 2024، دخلت سورية طورًا انتقاليًّا اتّسع فيه فراغ السلطة وتنازعت الساحة مزادات سرديات: عودة اللاجئ، وعودة رأس المال، وعودة التراث، فيما انخفضت كلفة الدخول الرمزي لفاعلين دينيين وثقافيين أجانب، وتحوّل ملفّ التراث إلى عملة سريعة التسييل تقايض بها سلطات محلية موارد وتمويلًا مقابل شرعنة حضور مؤسسيّ دائم. وعلى خلفية مسرح أمنيّ مشتعل في 2025 متمثّل في ضربات عسكرية ثقيلة وإنزالات متكررة حول دمشق، واحتكاكات على حدود الجولان في القنيطرة ودرعا، وتوترات في الجنوب عند الدروز ودعم مسار انفصالي، ترتفع الكلفة السياسية لأي اقتراب إسرائيلي مباشر، فتفضّل واجهة ثقافية منخفضة الاحتكاك تراكم حقوق وصول وتطبّع الحركة من دون إعلان سياسيّ صريح. ومع تكرار الزيارات وترسّخ شبكات التمويل والخبرة، تتحوّل ترتيبات مؤقتة إلى حقائق أمر واقع تستخدم لاحقًا كمرتكز، فينزلق المشهد من إعمار رمزيّ إلى بنية قبول مؤسسي تفتح الباب أمام تطبيع مشروط يسبق الاعتراف، وتغدو إدارة الذاكرة عمليًّا أداة إدارة أمنية بالوكالة. هذه الزيارة ليست إحياء تراث، بل تلميعًا سياسيًا مقنّعًا يوظّف طقوس الحنين والدموع على حجارة القبور لخلق ضغط أخلاقيّ يجرّم أيّ اعتراض سيادي ويمرّر تطبيعًا بالرواية داخل دمشق؛ إذ تقدّم مشاهد الصلاة بوصفها حقًّا ثقافيًّا، فيما تغطّي حضور وسيط ماليّ يعد بالترميم والتمويل ليصنع شبكة مستفيدين محليين تدافع لاحقًا عن استمرار هذا الحضور بوصفه مشروعًا نافعًا، لا بوصفه اختراقًا منخفض الضجيج للمجال العام. إن استدعاء حادثة التدنيس لتحويل كل خطوة لاحقة إلى واجب حماية هو "غسل تراثي/أخلاقي" يلبس السياسة ثوب الإنقاذ، وينزل الخلاف من حيّز السيادة إلى حيّز العواطف، بحيث تتحوّل دمشق إلى منصّة قياس لمدى تقبّل الشارع لرموز مشروع ما يزال يحتلّ الجولان ويقمع الفلسطينيين. وجود رجل دين إلى جانب رجل أعمال ليس تفصيلًا؛ إنّه رسالة مفادها أن الإيماءة الروحية ستترجم عقودًا ومذكرات وصناديق تعيد تعريف المكان وقواعد الحركة والاتصال، وتحوّل الزيارة إلى واقع مؤسسيّ يصعب التراجع عنه. لذلك أرفضها بوضوح؛ ليس رفضًا لليهود كدين أو لحقّ الذاكرة كقيمة إنسانية، بل رفضًا لتسخير الذاكرة كسلاح سرديّ يتجاوز حقوق السوريين وروايتهم وملفّاتهم المفتوحة. أيّ حديث عن ترميم قبل إنهاء الاحتلال وإقرار حقوق الفلسطينيين والجولان هو قفز فوق العدالة وتزييف لمعادلة الأخلاق.
التعاطي السوري
يتبدّى المشهد الاجتماعي السوري، في غياب بيانات تمثيلية، عبر ثلاث دوائر متداخلة تعيد تشكيل الاستجابة العامة: دائرة رفض وطني-حقوقي ترى في أي حضور علني بوابةً إلى تطبيع يضعف الموقف من الجولان وفلسطين وترفض تحويل التراث إلى حصان طروادة؛ ودائرة براغماتية محلية تتعامل مع الملف كفرصة تمويل وصيانة وترميم وتبريد للتوترات، خصوصًا في البلديات المحتاجة؛ وثالثة ملتبسة ثقافيًّا تمزج تعاطفًا إنسانيًا مع عودة الذكرى وخشيةً سياسيةً من ترجمتها المؤسسية، فتنتج قبولًا آنيًا ورفضًا استراتيجيًا في آن معًا. ويتوقّف مصير المسار على توازن هذه الدوائر وعلى قدرة النخبة الثقافية-الإعلامية في دمشق على استعادة زمام الرواية وعدم تركها لمحرّري المنصّات العابرة للحدود، لا سيما مع توظيف صيغ إنسانية ملحّة من نوع "خمسة فقط باقون" و"ثمانية مسنّين" لإسناد استعجال العودة. وإسنادًا لسيادة السرد، يلزم اعتماد "ميثاق رواية" في المواقع الحسّاسة، بلوحات تفسيرية ثلاثية اللغة تدرج الوقائع في سياق سوريّ شامل وتمنع التأطير التبشيري، وتكريس حقّ الردّ والتصويب بحيث تلزم أيّ تغطية أجنبية منحازة بتعديل سردها، مع حظر العلامات والخطابات ذات الإيحاء السياسي لضمان أن تبقى الزيارات ثقافيةً محضة وبهيئة مدنية صارمة. وبذلك تدار القابلية الاجتماعية ويرفع كلفة الاختراق الناعم دون قطع الطريق على صون الذاكرة بوصفها حقًّا عموميًا.
تطبيع ناعم أم تبييض صفحات؟
ليست القضية هنا تراثًا يستعاد، ولا ذاكرةً تصان، ولا اقتصادًا ناشئًا فحسب، بل هجوم تطبيعيّ صريح يتعيّش على التناحر الإقليمي ووقائع الفوضى، ويستخدم الرموز الشعائرية غطاءً لتمرير حضور سياسيّ على هيئة وفود ثقافية وتمويلات ترميمية وشراكات بحثية؛ تلتقط صور الصلاة والقبور وتعبّأ عاطفيًا لتجريم أيّ اعتراض سيادي، بينما تتحرّك خلف الكاميرا آلية أدقّ: تراكم هادئ لحقوق وصول وقواعد حركة واتصالات دائمة، وصناعة شبكة مستفيدين محلّيين تتكفّل لاحقًا بالدفاع عن استمرار هذا الحضور بوصفه "نفعًا"، لا "اختراقًا". ما يجري - وقد جرّب في دمشق وغيرها - هو إعادة دخول محكمة الإخراج، تعيد تعريف المجال العام عبر سردية إنقاذ أخلاقي تقصي أسئلة الاحتلال والجولان وفلسطين، وتحاصر خطاب الرفض بين تهمة التعصّب أو كره الحقوق الثقافية. لذلك يلزم تسمية الظاهرة كما هي: واجهة تطبيع منخفضة الاحتكاك تبيّض سياسة الأمر الواقع تحت قناع الذاكرة. والمطلوب موقف سياسي-إعلامي-مؤسسي يضبط العتبات بوضوح: لا نشاطًا ثقافيًّا أو تراثيًا قبل اعتراف علنيّ بحقوق السوريين والفلسطينيين والتزام قابل للقياس بعدم توظيف الفعل الرمزي لأغراض سياسية، مع تفكيك الصورة المعلّبة وكشف مسار تمويلها وشبكاتها وكلّ خطاب يعيد تأثيث المدينة لصالح رواية لا تخصّ أهلها. إدارة الحكاية هنا أمن وطني: كلما انفضح قناع "الإنقاذ" وتراجعت قابليته للإقناع، انخفضت فاعلية هذا المسار، واستعادت دمشق حقّها في تحديد حدودها ومعنى ذاكرتها.