لم تألف أي مدينة فلسطينية في فضائها العمراني بناء الأبراج السكنية والتجارية، مثلما شهدت مدينة غزة منذ ما بعد الانتفاضة الثانية. وإذا كانت الأبراج والناطحات في المدن والعواصم العربية بمثابة واجهات لها متصلة بالتحديث والتطور والاستقرار فيها، فإن بناءها في غزة مردّه لحكاية أخرى متصلة بالكثافة السكانية والضائقة السكنية في ظل جغرافيا محدودة ومحاصرة منذ عقود، ما جعل بناء البنايات أو المنشآت عالية الارتفاع في غزة محاولة من المدينة لاستيعاب أبناءها وطموحاتهم خصوصًا الأجيال الشابة منهم لإيوائهم في ظل ضيق الجغرافيا وخنقها.

هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار طبيعة التشكيل الديموغرافي لقطاع غزة بوصفه حيز لجوء تاريخيًا، لا يملك لاجئوه فيه غير أحلام عودتهم إلى أراضيهم التي سلبتها منهم نكبة عام 1948.

وبحسب دراسة معمارية للمعماري عبد الكريم محسن من أهالي غزة بعنوان: "القيم التخطيطية لمشاريع الإسكان في قطاع غزة وانعكاسها على مشاريع الإسكان" فإن عدد الأبراج السكنية في القطاع ما بين عامي 2001 و2011، بلغ 250 برجًا سكنيًا، تضاعف عددها في العقد الثاني. وقد جاءت حروب غزة في الأعوام 2012 و2014 و2021 على بعض هذه الأبراج ودمّرتها، إلى حد ارتبطت هذه الحروب في ذاكرة الغزيين بقصف سلاح جو جيش الاحتلال وتدميره بعض أبراج مدينتهم مثل: برج ظافر أو البرج الإيطالي في حرب عام 2014. غير أن حرب الإبادة الدائرة على القطاع وأهله، كانت الأبراج والمجمعات السكنية الكبرى أول ما بدأت الحرب به للنيل منه منذ يوم الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وذلك في سيرة محو للوجه العمراني لغزة عبر سياسة تركيم – تحويل إلى ركام – بدأت مع قصف كامل منطقة أبراج المخابرات في بداية الحرب وصولًا إلى برجي "مشتهى" و"السوسي" في الأيام الأخيرة.

إن قصف وتدمير برج سكني في غزة، يشبه إلى حد بعيد استهداف حي بأكمله، إذ تأوي الأبراج في سُكنها وشققها مئات الغزيين، الذين وجدوا أنفسهم بعد أوامر إخلائها قبل قصفها مشرّدين في خيام نازحي القطاع منذ بدء الحرب. وهذا إذا ما تم إنذارهم بالقصف مسبقًا لإخلائها، لأن مئات العائلات الغزية التي جرى محوها من سجل نفوس غزة خلال عامي الحرب، قضت معظمها تحت ركام بيوتها ومساكنها التي جرى قصفها دون سابق إنذار، أو قبل أن تتمكن من إخلائها بعد إنذارها.

وفي حديث مع الناجية من حرب الإبادة في غزة، نظمية صفدي، التي تسنّى لنا مقابلتها مؤخرًا في القدس، تقول صفدي بأنها كانت تقيم مع أفراد أسرتها الناجية في شقة تملكتها الأسرة في أحد أبراج حي الرمال السكنية، غادرت وأسرتها الشقة بعد أوامر بالإخلاء من قبل جيش الاحتلال في الأشهر الأولى من الحرب، لتبدأ أسرة صفدي مسيرة نزوح دائم حتى تسنّى لها مغادرة القطاع عبر معبر رفح إلى مصر.

غير أن بعض العائلات المقيمة في البرج الذي كانت تقيم فيه أسرة صفدي قضت فيه قصفًا بعد أن رفضت مغادرته، لأنها آثرت البقاء والقضاء فيه على النزوح والتشرد، أو لأنها لم تأخذ أوامر الإخلاء والإنذار بالقصف على محمل الجد!

ولما سألنا صفدي، عما يعنيه ألا تأخذ بعض عائلات الأبراج السكنية في غزة أوامر الإخلاء على محمل الجد في ظل حرب غير مسبوقة في وحشيتها؟ أجابت، بأنه ومن أيام الحرب الأولى، كثيرًا ما كان جيش الاحتلال يُنذر سكان بعض الأبراج والمجمعات السكنية في غزة بالإخلاء لأنه سيقصفها بعد دقائق، مما يضطر الأهالي إلى إخلائها.

غير أن جيش الاحتلال لم يكن يقصفها، الأمر الذي كان يدفع السكان للعودة إليها، ثم يتكرر أمر الإخلاء وإخلاؤها ثانية وثالثة على مدار أيام دون قصفها، إلى حد صار يَعتبر فيه البعض أوامر الإخلاء والإنذار بالقصف غير جدية، إنما فقط لإرهاق السكان ومعاقبتهم. غير أن القصف في الأخير كان يجري فعلاً، مما كان يسفر عن قضاء واستشهاد بعض العائلات تحت ركام شققها البرجية، وذلك في سياسة اتبعها جيش الاحتلال لتمويه الناس عبر قتلهم في مساكنهم في ظل "غطاء قانوني" بأنه أنذرهم بالإخلاء مسبقًا في الوقت نفسه.

أساسًا، إن استهداف الأبراج السكنية في الحروب السابقة على غزة، وتحديدًا حرب عام 2014، التي أطلق عليها جيش الاحتلال اسم "عملية الجرف الصامد"، حيث جرى لأول مرة فيها استهداف أبراج سكنية يقيم فيها عشرات لا بل مئات الغزيين المدنيين وتدميرها حتى تسويتها بالأرض، كان أحد أبرز القضايا لمقاضاة إسرائيل دوليًا بارتكابها جرائم حرب. بمعنى أن الأبراج السكنية واستهدافها من قبل جيش الاحتلال أضحت الدال الأساس على جرائم حرب إسرائيل في القطاع.

في حينه، أي قبل عشرة سنوات، كان استهداف برج أو مجمع سكني في غزة يسبب حرجًا لحكومة إسرائيل وجيشها، مما يضطرهما إلى تشكيل لجان تحقيق وإعداد تقارير رسمية لتفسير وتوضيح قصفها أمام المنظمات القانونية والإنسانية الدولية. بعض هذه التقارير منشورة ومتاحة على صفحات ومواقع بعض المراكز الإعلامية والبحثية الإسرائيلية إلى يومنا هذا، منها تقرير بالعبرية بعنوان: "لا يوجد شيء محصن: هدم مبانٍ مركزية في القطاع على يد إسرائيل" الذي أعدته منظمة "Amnesty International" والذي يتناول ويوثق استهداف جيش الاحتلال لأربعة مجمعات وأبراج تجارية وسكنية في القطاع خلال حرب "عملية الجرف الصامد" عام 2014، هي: برج المركز التجاري في رفح، وبرج ظافر 4، والمجمع الإيطالي، وبرج الباشا في مدينة غزة.

لم يتوانَ جيش الاحتلال منذ بدئه حرب إبادته على سكان القطاع عن استهداف كل ما يمت للبشر والحجر بصلة في غزة، ومن بينها المجمعات الإسكانية والأبراج المكتظة على اختلافها، واختلاف مواقعها وأسمائها، في غزة المدينة والقطاع عمومًا. وقد نشر جيش الاحتلال غير مرة خلال الحرب خرائط تنذر سكان الأبراج والمجمعات السكنية بضرورة إخلائها قبل قصفها، كان آخرها خريطة نشرها جيش الاحتلال في الأيام الأخيرة، تتضمن أهدافًا لمبانٍ وأبراج سكنية محددة باللون الأحمر في غزة المدينة، منذرًا سكانها بقصفها.

يأتي قصف أبراج غزة وتدميرها مؤخرًا في سياق خطة يعدها جيش الاحتلال لاحتلال المدينة. ففضلًا عن سياسة المحو التي ما تزال تحكم منطق حرب الإبادة على القطاع بقتل وتدمير كل ما يدب ويقوم على أرضه، فإن للحملة العسكرية الأخيرة على أبراج المدينة السكنية ما يتصل بخطة احتلالها لناحية دفع سكان المدينة للنزوح منها جنوبًا، بحسب ما تقتضيه خطة احتلال المدينة. وهذا جارٍ منذ أيام بعد قصف برج "مشتهى" المؤلف من 15 طابقًا في حي الرمال، وبرج "السوسي" المكون من 60 شقة في مدينة غزة. معطوفًا على ذلك ما تذرع به قادة جيش الاحتلال، بحسب ما نشرته مواقع إعلامية إسرائيلية في الأيام الأخيرة، بأن المقاومة في غزة تستخدم تلك الأبراج كمواقع لرصد مواقع وحركة جيش الاحتلال في القطاع، مما "يستدعي" استهدافها وتركيمها في الأرض.

لا يطاول قصف المجمعات والأبراج السكنية سكان غزة وحدهم عبر إخلائهم وتشريدهم نازحين هائمين على وجوههم في القطاع، عدا عن الأضرار التي يتسبب بها قصف الأبراج لما تبقى من مبانٍ وبيوت مجاورة وترويع الأطفال والنساء في محيط القصف. إنما يطاول استهدافها وتركيمها بالأرض فكرة البقاء وإمكانية ترميم هذه الأخيرة في غزة. فبقاء العمران، خصوصًا الشاهق منه مثل الأبراج والمجمعات السكنية الكبرى في ظل الحرب، كان يمنح بعض الغزيين – كما عبّروا على صفحاتهم وحساباتهم مؤخرًا – أملًا بإمكانية استئناف شروط الحياة في القطاع التي يصر الاحتلال على إبادتها.