والله يا أصدقاء، لقد عشنا في هذه البلاد زمناً عذباً وجميلاً، أقلَّ مشقّةً وأسهل عبوراً؛ كنّا نشغّل سياراتنا في طولكرم، فلا يمضي وقت طويل حتى نصل إلى قلب رام الله، في أقل من ساعة. وإن خطر ببالنا زيارة نابلس أو جنين أو حتى العودة إلى طولكرم، لم يعترضنا شيء؛ فالطرق مفتوحة والمناظر بهيّة، تكاد الروح تطير من جمالها. وإذا اشتقنا إلى البحر المالح، كان الوصول إليه سهلاً ومريحاً، وقضاء الوقت على شاطئه متعة للروح وشفاء للجسد المتعب.

أمّا اليوم، فالقصة اختلفت؛ فالضفة الغربية قُسّمت تقسيمًا هندسيًا “عبقريًا”: شمال، وسط، جنوب… بل هناك من أضاف “شمال الشمال” و”جنوب الوسط”! .

 -دولة الشمال: إمارات جنين، طوباس، أريحا والأغوار، طولكرم، سلفيت، قلقيلية، نابلس.
-دولة الوسط: إمارات رام الله والبيرة.
 -دولة الجنوب: إمارات بيت لحم والخليل.

فإن عزمتَ أن تنتقل من دولة إلى أخرى، أو من إمارة إلى أخرى، فاعلم أن الأمر ليس رحلةً عاديةً أو مشوارًا عابراً، بل اختبارٌ صعب؛ ستحتاج إلى تصريح وبطاقة ممغنطة وحسن سلوك، وتحتاج مركبتك أيضًا إلى تصريح مماثل.

ستُسأل عن حالك: هل أنت متزوج؟ كم لديك من الأبناء؟ هل أنت فوق الأربعين؟ هل تعاني من ضغط الدم أو السكّري؟ هل لديك أقارب من الجدّ العاشر اعتُقلوا ذات مرّة؟ هل أحببت يومًا محمود درويش أو سميح القاسم أو عبد الكريم الكرمي أو عبد الرحيم محمود؟ هل تمتلك كوفية مخطّطة؟ هل تحفظ أغاني مثل “طل سلاحي من جراحي”، أو “غلابة يا فتح”، أو “فدائي”، أو “يا نبض الضفة”؟.

ومن الضروري أن تعرف، قبل تنقلك، مواعيد فتح وإغلاق البوابات والحواجز المثبّتة على حدود دولتك وإمارتك، وأن تعرف  اللغة العبرية لتدرك الطرق المسموح للعرب المرور منها، وتلك المحظور عليهم الاقتراب من مساراتها. ومن المهم متابعة أخبار المستعمرات المقامة في كل مكان من “مملكة يهوذا والسامرة/الضفة الغربية سابقًا”، لتعرف مواعيد أعيادها واحتفالاتها، وعودة مركبات وأنعام وخيول سكانها إلى مقارهم.

وإذا أردت أن تستدلّ على موقع وطريق بلدةٍ أو قريةٍ فلسطينية ضائعة من ذاكرتك، فما عليك إلا أن تلجأ إلى تطبيق Waze أو خرائط جوجل، أو صفحات مداخل وطرق التجمّعات العربية.

أمّا إذا رغبت الصلاة في المسجد الأقصى المبارك أو كنيسة القيامة في القدس، فعليك الحصول على “فيزا” من وزارة الاستيطان المركزية في تل أبيب، أو من فروعها الموزّعة في المستعمرات القريبة من مراكز سكنك، وتقديم كل الأدلة التي تثبت عدم تلوث عقلك بالقضايا والمناهج الوطنية.

وإذا طاف بذهنك شوقٌ إلى حيفا، عكا، يافا، بيسان، صفد، الناصرة، أم الفحم أو قطاع غزة، فستحتاج إلى تصريح خاص من وزارة الدفاع الإسرائيلية، وكفالة بمبلغ مليون شيكل “عدًّا ونقدًا”، وشهادة خلوّ من التاريخ والجغرافيا الفلسطينية، وضمان سلامة مكونات جسمك وعقلك.

ويمكنك الحصول على “مساعدة ودعم” من مكاتب الهجرة المقامة على معابر الكانتونات أو الدول والإمارات الفلسطينية سالفة الذكر، لتسهيل سفرك وهجرتك إلى أي دولة تختارها في الفضاء العالمي، والحصول على جنسيتها.

لقد أصبحنا نعيش في “فلسطين كانتون”: دول وإمارات منفصلة عن بعضها البعض؛ لكل منها حدود ومعابر وأمير، وجواز سفر وهوية شخصية، وأختام وفيز خاصة، ومجالس تشريعية ونيابية وبلدية، وحكومة ووزراء تكنوقراط، وعملة وبنوك وشركات اتصالات وجامعات، وبئر غاز ونفط ومصفاة بترول.

الاستيطان يقضم الأرض الفلسطينية قطعةً قطعة، وسفينتها تغرق في محيط المشروع الاستيطاني الإحلالي الصهيوني العقائدي. ولا نملك كفلسطينيين استراتيجيات، ولا خططًا، ولا مؤسسات لدعم وتثبيت المواطن الفلسطيني في وطنه؛ هياكل وطنية وسياسية وحكومية واقتصادية ومالية واجتماعية مشلولة. لم نستوعب بعد مئة عام من التاريخ الفلسطيني، أو أكثر، أن الصراع الوحيد على كتابته هو على الأرض فقط، وكل ما عدا ذلك فائض عن الحاجة!.