حتى بداية 2025، استقرّت خريطة القوى في الشمال السوري على معادلة أكثر انضباطًا مقارنة بفترة الفوضى السابقة المرتبطة بالنزاعات بين الفصائل المسلحة بحكم اختلاف المشارب ومصادر التمويل، إذ رسّخت هيئة تحرير الشام (HTS)، وهي التي قادت غرفة العمليات المشتركة التي أطاحت بنظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، سيطرتها على إدلب وأجزاء من أرياف حماة وحلب واللاذقية من خلال منظومة حكم وأمن متكاملة تضم أجهزة شرطة وأذرعًا استخباراتية وهيكلًا عسكريًا منظمًا، مدعومًا بمسار دمج للفصائل المحلية في تشكيلات أكبر ضمن ما يُسوَّق له كمشروع جيش سوري جديد، لتقليص ازدواجية القرار العسكري والسلاح.

إلى جانبها، تعمل فصائل أصغر أو متحالفة مثل جيش العزة وأحرار الشام ومكوّنات من الجبهة الوطنية للتحرير، مع بقاء مقاتلين أجانب، على رأسهم الحزب التركستاني الإسلامي وبقايا مجموعات سلفية جهادية مثل حراس الدين وأنصار التوحيد.

اقتصاد السلاح في إدلب خلال هذه الفترة بقي معتمدًا على شبكات تهريب وتوريد متشعبة تربط بين السوق المحلي والمصادر الخارجية، حيث تدخل الأسلحة عبر مسارات غير رسمية من الحدود التركية أو عبر إعادة تدوير مخزونات قديمة من جبهات أخرى، إضافة إلى التصنيع المحلي للذخائر والعبوات عبر ورش صغيرة تديرها الفصائل أو جهات مرتبطة بها، ما خلق سوقًا موازية تُستخدم فيها التجارة بالذخائر كأداة تمويل وتأثير سياسي.

مؤخرًا، تتكرر حالات انفجار مستودعات أسلحة في الشمال السوري في ظل بروز حاجة ملحّة لإعادة ترتيب المشهد العسكري والسياسي في الشمال، وبالتحديد في إدلب، حيث تنتشر فصائل وألوية كانت فاعلة في مسار المعارضة السورية المسلحة في مرحلة نظام الأسد، لكنها باتت الآن خارج حسابات المرحلة الحالية والمقبلة، سواء على مستوى العمل العسكري أو العمل الأمني الداخلي.

هذه الفصائل كانت أداة حاسمة في إسقاط النظام لكنها ربما تحولت في نظر الإدارة الجديدة إلى عبء أمني وسياسي، لعدة أسباب تبدأ من ارتباطاتها الخارجية، أو لرفضها فعليًا الانضواء تحت سلطة مركزية موحدة عسكرية تحتكم المشهد الأمني العام، أو رفض فكرة احتكار السلاح من قبل الدولة بالمبدأ.

الآن، ما يهم هو النظر إلى انفجار مستودعات الذخيرة في إدلب على أنها جزء من عملية منظمة لإعادة هندسة ميزان القوى العسكري، وتفريغ الساحة من القوى المسلحة المستقلة، والتي أصبحت الآن فواعل ما دون الدولة (Non-state actors).

تمثّل طبيعة الأسلحة المخزّنة في إدلب حتى 2025 مزيجًا متنوعًا يعكس هذا الاقتصاد المعقّد، إذ تشمل ذخائر خفيفة ومتوسطة من عيارات 7.62×39 و7.62×54R، ورشاشات ثقيلة من عيارات 12.7 و14.5 و23 ملم، وقذائف هاون بأحجام 60 و82 و120 ملم، وقذائف مدفعية ميدان وراجمات غراد (122 ملم)، بالإضافة إلى مواد متفجرة وصواعق ومكونات عبوات ناسفة جاهزة للتجميع.

كما تضم بعض المستودعات أجزاء منصات مسيّرات أو ذخائر طائرة يتم الحصول عليها عبر قنوات تهريب محدودة أو تصنيع محلي. شبكات الإمداد لهذه الترسانة تعتمد على مزيج من الدعم اللوجستي الخارجي، والشراء من أسواق سوداء إقليمية، وجمع مخلفات الحرب من ساحات القتال وإعادة تأهيلها، مما يجعل المخازن مراكز حساسة ترتبط مباشرة بالتوازن العسكري للفصائل وبقدرتها على المناورة في مواجهة خصومها، وفي الوقت نفسه تشكّل نقاط ضعف كارثية في حال تعرضها للاستهداف أو سوء التخزين في بيئة مدنية مكتظة.

الانفجارات عمومًا هي أداة لـتقليم النفوذ ونزع السلاح بأسلوب غير مباشر، عبر إضعاف القدرات النارية للفصائل دون الدخول في مواجهات علنية قد تهدد الاستقرار السياسي الهشّ أساسًا. فالسلطة الجديدة تسعى لاحتكار القوة العسكرية، وتعتبر بقاء مخازن سلاح مستقلة بيد ألوية أو فصائل موازية تهديدًا مباشرًا لاحتكار العنف المنظم والمقنّن.

لا ننسى أن إدلب هي نموذج يُعمَّم على سورية، وتبني هذا النموذج يفرض تنظيف البنية الأمنية من سلاح منفلت، وإعطاء المجال للفعاليات المدنية بالظهور، بعد أن كانت سمعة إدلب في المجتمع الدولي حاضنة للجماعات المصنفة على قوائم الإرهاب والفصائل الإسلامية وملتقى المقاتلين الأجانب.

وإضعاف القدرة العسكرية والتسليحية للفصائل أو أي أفراد أو تشكيلات مسلحة كبيرة مستقلة، يُعدّ شرطًا ضروريًا لفرض الحكم المدني وإعادة بناء المؤسسات المحلية.

على مستوى أعلى، لدينا مجموعة من الأطراف الخارجية التي دعمت فصائل إدلب، سواء كانت عربية أو إقليمية أو قنوات غربية. بعد رفع الدعم لصالح الإدارة الجديدة، من الواضح أن زمن الفصائل المستقلة المرتبطة برعاة خارجيين قد انتهى، وأن الخريطة الأمنية ستُعاد صياغتها وفقًا لأولويات التحالفات والمصالح الوطنية الجديدة، وبالتالي فإن تنظيف هذه المنطقة يمر عبر إضعاف موارد/تجفيف أصول هذه الجماعات.

تتيح طبيعة هذه الانفجارات عمومًا، والتي يمكن نسبها إلى أعطال أو حوادث عرضية أو أعطال فنية متعلقة بسوء التخزين وارتفاع الحرارة، غطاءً من الإنكار، ما يمنح السلطات في أي دولة (وليس في سورية وبخصوص مشهد إدلب فقط) هامشًا واسعًا للتحرك دون تحمّل تبعات المواجهات المباشرة.

وفي كثير من الأحيان، تنفذ أجهزة الاستخبارات المحلية أو الحليفة مثل هذه العمليات بهدوء، كجزء من إعادة توزيع موازين القوة على الأرض. الأمر ذاته حصل بين لواء الفرقان ولواء أحرار الريف الغربي في ريف دمشق والقنيطرة، عبر تنفيذ تفجيرات متبادلة لمستودعات كانت معبّأة بالسلاح والذخيرة الخفيفة والمتوسطة وصولًا إلى صواريخ تاو وغيرها.

الأهم، ومع اللغط الحاصل في الولاءات والتمويل والتوريد، لا يمكن استبعاد أن بعض هذه الانفجارات ناتج عن صراعات بين الفصائل نفسها، إذ تستغل القوى المتنافسة حالة السيولة السياسية لتصفية حساباتها أو الاستحواذ على موارد خصومها قبل الدخول في أي ترتيبات جديدة.

وقد تجد الإدارة الجديدة في هذا الصراع البيني وسيلة تنظيف ذاتي للميدان، توفر عليها الجهد والتكلفة. بهذا المعنى، تبدو الانفجارات الأخيرة في مستودعات الأسلحة في إدلب جزءًا من استراتيجية تفكيك صامتة، تهدف إلى تحييد القوى العسكرية التي لم تعد ذات فائدة، وترسيخ سلطة مؤسسات مدنية وإدارية جديدة.