"دخل أحمد يلهث عصر يومٍ من أيام خريف عام 1935 إلى الدكان وصرخ: استُشهد الشيخ ورفاقه في يعبد. فلاح ذُهل من حجم الحزن والصراخ وقال: مين الشيخ؟... القسّام قتلوه الإنجليز الملاعين".

كان هذا في حيفا يوم وصول نبأ استشهاد الشيخ عز الدين القسّام إليها، في كتاب من حوران إلى حيفا للكاتب زياد محمد الزعبي، الصادر بطبعته الأولى عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2020، ويتضمّن شهادة منقولة على لسان أبيه محمد الزعبي، حيث أقام هذا الأخير وعمل في مدينة حيفا وقت نشاط الشيخ عز الدين القسّام فيها، واستشهاده في يعبد، ويوم تشييعه في حيفا إلى مقبرة بلد الشيخ، حيث مثواه الأخير في ثلاثينيّات القرن الماضي.

ننقل هذه الشهادة في الوقت الذي تستمر فيه حرب إبادة غزّة، ودعوة بن غفير إلى هدم وجرف ضريح قبر القسّام، المُرمّم أصلًا بعد هدمه من قبل في مقبرة بلد الشيخ.

كان استشهاد القسّام في يوم 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1935، ونُقلت جثته ومعها جثتا رفيقيه الشهيدين يوسف الزيباوي وعطية المصري إلى حيفا مساء نفس يوم استشهادهم، وشُيّعوا في اليوم التالي في جنازة واحدة، انطلقت من بيت القسّام في حيفا إلى مثواهم الأخير في مقبرة بلد الشيخ.

كان من عبّأ وحشد لجنازة القسّام هو أكرم زعيتر عبر جريدة الجامعة الإسلامية، إذ أملى عليها مساء يوم استشهاد الشيخ، وعبر الهاتف، بيانًا حمل توقيعه، بحسب ما وثّق الباحث الفلسطيني الراحل سميح حمودة في دراسته الوعي والثورة: دراسة في حياة وجهاد الشيخ عز الدين القسّام 1882–1935.

وقد جاء في بيان التعبئة:

"نمشي غدًا في موكب تشييع صاحب الفضيلة الأستاذ الشيخ عز الدين القسّام، رئيس جمعية الشبان المسلمين في حيفا ورئيس مسجدها الكبير، وإخوانه الذين قُتلوا في يعبد إلى جنبه، ونودّعهم لحودهم في حيفا، وإني لأدعو هذا اليوم الزعماء ورؤساء الأحزاب إلى السير في الموكب".

ومما يرويه الزعبي عن صبيحة يوم تشييع القسّام ورفاقه:
وصلوا إلى بيت القسّام، وشاهدوا الأعلام السوداء المرفوعة على جدران البيوت القريبة من بيت القسّام. كانت الناس كثيرة أمام بيت القسّام وفي حالة ذهول. رأى محمد – يقصد محمد الزعبي، صاحب الشهادة – رجلًا يلبس هندامًا غريبًا أسود اللون، وتحته قميص أبيض وربطة عنق سوداء، ويضع على رأسه طربوشًا أسود اللون، وله شاربان معقوفان، يقترب من النعش ويلفّه بعلم، لكنه ليس علم فلسطين، وحين سأل، قيل له: هذا علم العراق، تعبيرًا عن أن القسّام شهيد العرب كلّهم على أرض فلسطين. وحين وصل نعش أحد رفيقيه، قام الرجل نفسه بلفّه بعلم آخر، قيل له إنه علم المملكة السعودية، أما النعش الثالث فقد تم لفّه بعلم اليمن.

ولما سأل محمد رفيقه أحمد – أحمد صديق صاحب الشهادة – من يكون الرجل؟ قال له: هذا رشيد الحاج إبراهيم، رفيق القسّام وأشدّ مؤيّديه من زعامات حيفا.

توافد الناس بكثرة، وقيل لهم إن الحكومة – حكومة سلطات الانتداب البريطاني – منعت الجنازة أن تمر بالمدينة. تعالت صرخات المشيّعين رافضة هذا الأمر، وكان هناك أفراد كثيرون من البوليس، ولكنّهم تراجعوا.

أما الرجال، فقد كانوا يزدادون كلّ دقيقة حتى أصبحوا بالآلاف، وحمل شبّان القسّام، ومنهم أحمد، نعش الشهيد، وتبعهم شبّان آخرون يحملون النعشين الآخرين اللذين عرف محمد أن اسميهما الشيخ الزيباوي والمجاهد عطية، وساروا بالنعوش الثلاثة تتابعًا في الطريق وسط المدينة، غير عابئين بما قرّرته حكومة الانتداب الإنجليزية. كانت الجنازة المهيبة تهتف: "الله أكبر، الله أكبر على المستعمر".

كان واضحًا أنها تتجه إلى جامع الاستقلال الذي شهد دعوات القسّام الأولى إلى الجهاد. لم تتوقف الجنازة إلا قليلًا أمام جامع الاستقلال، وتوجّهت إلى الجامع الكبير في الجرينة، وبعد الصلاة على الشهداء عاد الجمهور الهائج الناقم إلى شارع الملوك، ثم إلى ساحة فيصل، مواصلًا سيره إلى شارع الحجاز، ومن هناك إلى مقبرة بلد الشيخ، التي استغرق السير إليها ثلاث ساعات.

كانت أكبر جنازة شهدتها حيفا، شارك فيها أهل المدينة والمدن الأخرى من فلسطين، وكأنّهم يقولون: هذا شهيد الوطن كلّه، وسوف نجاهد ضدكم، أيّها الإنجليز، وضد أعوانكم من اليهود والعملاء.

محمد، الذي شارك أكثر من مرّة بالتناوب مع أحمد، الذي لم يغب عن نظره في حمل النعش، ووري التراب. طفرت الدموع أكثر من مرة من عيني محمد، وهو يسمع التكبيرات.

عاد مع أحمد، ولم يُسمح له بالعودة إلى الطيرة – أي لم يُسمح لأحمد بالمبيت في قرية طيرة الكرمل – بل نام معه ومع أخيه في غرفتهما، بعد يوم طويل ومتعب، لدرجة أنهما لم يُحدّثا فلاحًا عن الجنازة التاريخية للشهداء الثلاثة...

يذكر صاحب الشهادة على جنازة القسّام ورفاقه، بأنّه قرّر أن يكون من المعيّنين لمجموعات القسّام في مدينة حيفا، كما ذكر عن أحمد صديقه الذي صار يواظب بعد انتهائه من العمل في الدكان يوميًّا على الذهاب إلى جامع الاستقلال ليلتقي بإخوانه الذين يسمّون أنفسهم "إخوان القسّام"، ويتلقّون توجيهات من زعماء هذه المجموعة، مثل الشيخ عبد الله يونس، والشيخ كمال القصّاب، والشيخ حسين الحمّادي، والشيخ محمد الخطيب.

أخبار الهجوم على مراكز البوليس الإنجليزي، وعلى المصالح اليهودية، تتوالى يوميًّا من أنحاء مختلفة من فلسطين. كان أحمد ينقل هذه الأخبار أو يقرؤها محمد في الصحف الورقيّة...

ومع الأيّام، يذكر صاحب الشهادة، مع تسارع الأحداث، ردّة أغنية شعبيّة صارت تملأ مدينة حيفا وفلسطين عمومًا، يردّدها الناس:

يا زريف الطول وارسم يا رسّام
صورة لفلسطين وصورة للقسّام
وعيون الثوّار والله ما تِنام
نصر يا استشهاد، هذا شعارنا...