منذ أن صعد بنيامين نتنياهو على منصة التطبيع يبيع لشعبه وهماً مصقولاً بالكذب قائلاً بثقة المهرّج في لحظة خداع: “لقد حيّدنا العرب انتهت قضيتهم ولم يبقَ أمامنا إلا الفلسطينيون وحدهم.” لكنه تجاهل أن العرب الذين صافحهم في القصور ليسوا الشعوب التي تهتف في الشوارع وأن الأيدي التي صافحها كانت مكبّلة بإرادة واشنطن لا إرادة الأمة ، ظن أنه أغلق الجبهة العربية بينما الحقيقة أنه أشعلها في القلوب الموجوعة وصنع من غزة مرآة يرى فيها العالم كله عري إسرائيل الأخلاقي والسياسي انه يخدع شعبه كما يحاول أن يخدع العالم لكن الأكاذيب لا تغيّر مسار التاريخ بل تفضح صانعيها أمامه.
منذ توقيعه على أوراق أبراهام تمختر نتنياهو كمن يفتح أبواب التاريخ بيديه ظناً منه أنه اخترق جدار الرفض العربي وعبر فوق فلسطين إلى قلوب العرب بلا ثمن ولا اعتذار ، لكنه كان يقرأ فقط السطور التي كتبها له حلفاؤه في واشنطن ويسمع أصوات القصور التي صفقت له متجاهلاً قلوب الملايين من انحاء العالم و الامة العربية و الاسلامية و جماهيرها في الشوارع والساحات تحفظ الوجع الفلسطيني كما تحفظ الأم اسم ابنها وهذه القلوب لم ولن توقع على أي ورقة اعتراف.
وحين اندلعت حرب الابادة على غزة لم تكن مجرد فصل عابر في دفاتر الصراع بل كانت مرآة انكسرت فيها صورة إسرائيل التي أرادها مشرقة في عيون الغرب و ان صور البيوت التي هُدمت فوق أهلها و جثث الأطفال تحت الركام والعيون التي تسأل العالم: “لماذا؟” خرجت من غزة لتجوب العالم تصل إلى شوارع مدريد ولندن وباريس وتحتل ساحات الجامعات الأمريكية ، فجأة انقلبت الصورة و صارت إسرائيل في أعين الملايين ليست دولة تبحث عن السلام و الامن بل آلة قمع تحترف القتل وصار قادتها مرتبطين بعبارة “مجرمو حرب”.
في أوروبا ارتفعت رايات فلسطين في ميادين لم ترفع منذ عقود وفي أمريكا خرج جيل جديد يكسر إرث الصمت جيل يرى أن الديمقراطية لا تتجزأ وأن من يصمت على قتل الأطفال لا يحق له تعليم العالم قيم الحرية حتى الإعلام الذي طالما غطى جرائم الاحتلال بأغطية التبرير بدأ يكتب الحكاية كما هي بلا تجميل أو تحريف.
يوم امس وعلى أبواب معركة جديدة اغتال الاحتلال الإسرائيلي أربعة صحفيين في جريمة جديدة تؤكد فلتان العقال لدى نتنياهو وفرقته فالاحتلال لم يكتفِ بقصف المستشفيات والمدارس والكنائس والمساجد بل استهدف خيمة الصحفيين في محاولة بائسة لقتل الحقيقة وإسكات صوت الحرية.
كل ذلك يحدث على مرأى العالم وشعوب أمريكا وأوروبا التي بدأت تشعر بحجم العار من الدعم الذي قدمته دولها لإسرائيل وحجم الكذب الذي تم تسويقه لهم عن دولة أخلاق وديمقراطية أو أنها ضحية “النازية " كيف يمكن لمن كشف هذه الأكاذيب أن يتجاهل الآن أن إسرائيل تجاوزت النازية بجرائمها وأن كل جريمة يومية ترتكبها توازي المحرقة النازية في الحرب العالمية الثانية؟.
نتنياهو الذي أراد أن يختصر الطريق إلى التطبيع وجد نفسه يسير عكس التيار نحو العزلة خاسراً الرهان أمام الشعوب ومفقداً إسرائيل ما تبقى من صورتها في المحافل الدولية ، لم يكسب سلاماً دائماً بل اشترى وقتاً قصيراً كليل يوشك أن ينكسر أمام الفجر وهو لا يدرك أن التاريخ لا يكتبه المنتصرون في الحروب العابرة بل تكتبه الشعوب التي تحمل ذاكرتها جيلاً بعد جيل حتى يأتي يوم الحساب وحينها لن تنفع الصور في القصور ولا التواقيع على الأوراق بعيدا عن القلوب .
قد يظن نتنياهو أنه أطفأ نار العرب لكنه لا يدري أن تحت رماد التطبيع جمراً ينتظر لحظة الانفجار وحين تشتعل لن تبقى في يده لا أوراق ولا أوهام و لا ملوك و لا حكام تحميه او تحمي شعبه .