بعد 671 يومًا على حرب الإبادة التي دمّرت 80% من بيوت وبنايات قطاع غزة وبُناه التحتية، وقتلت 3% من سكانه، وحوّلت مليوني فلسطيني، غالبيتهم من ضحايا نكبة 48، إلى مهجّرين يسكنون العراء ويُحشرون في مناطق عازلة، صُمّمت لتكون محطات انتقالية على طريق التهجير النهائي، فيما هم "يتوسّلون" لقمة الخبز المُغمّسة بالدم لسدّ رمقهم، في ظل حصار التجويع الدائم الذي تحوّل مؤخرًا إلى أحد أسلحة القتل.
في ظل هذا الوضع الكارثي، وعلى شفا نهاية السنة الثانية من جحيم الحرب التي فتحت أبوابها وأغلقتها على أطفال غزة ونسائها ورجالها المكتوين بنارها أكثر من مرة، "يفاجئنا" رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بالإعلان عن نيته الإيعاز لجيشه باحتلال قطاع غزة!!
إنها مفارقة أخرى من المفارقات العجيبة لهذه الحرب التي لا تنتهي، وإعلان إفلاس للجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وشهادة شرف، وإن كانت من عدو، لأهل غزة ومقاوميها، واعتراف صريح من الاحتلال بعجزه عن استباحتها وكسر إرادة شعبها وصموده، رغم كل ما فعله جيشه المُعزّز بأحدث الأسلحة والطائرات الأميركية، وهو يحاول ستر هذا الفشل بإعادة "إنتاج" عملياته العسكرية من خلال تسميات مختلفة، من "سيوف حديدية" وحتى "عربات جدعون"، والتي تحطّمت جميعها على صخرة صمود نساء غزة ورجالها.
ربما نسي نتنياهو أن جيشه قام باحتلال غزة للمرة الثالثة مع بداية الحرب الحالية، بعد أن احتلها في الـ56 والـ67، وأن قواته قد اجتاحتها وشرعت بتهجير مدنها ومخيماتها من بيت حانون شمالًا وحتى رفح ومحور فيلادلفيا على الحدود المصرية جنوبًا، كما قام بما أسماه "تطهير" مناطقها، وأعاد هدم بقايا بيوتها أكثر من مرة، وكان يواجه في كل مرة بمقاومة أشد من سابقاتها، ويسقط جنوده قتلى وجرحى، ثم يخرج مقاتلو القسام والكتائب الأخرى في كل صفقة تبادل بزيّهم العسكري النظيف وسياراتهم اللامعة من تحت أنقاض هذه المناطق، وهم يقتادون الأسرى إلى مواقع التسليم.
ولو سأل نتنياهو أسلافه من رابين إلى شارون، وهم من أكثر الجنرالات المُكلّلين بأوسمة "النصر والبطولة" في تاريخ إسرائيل العسكري، لنصحوه بعدم الدخول إلى غزة أساسًا، فرابين الذي لم يجد، بعد أن غلب حماره معها، سوى أن يدعو عليها بأن تغرق في البحر، ثم سلّمها في أوسلو أولًا، وأضاف لها أريحا بعد إصرار عرفات، فيما لم يجد شارون من فكاكٍ منها سوى الفكاك عبر انسحاب أحادي الجانب في إطار ما سُمّي "خطة فك الارتباط" عام 2005.
ومن غير المستغرب أن العسكريين، وعلى رأسهم قائد أركان الجيش، الجنرال إيال زمير، الذي عُيّن بسبب ولائه لنتنياهو بعد أن شغل منصب سكرتيره العسكري، يعارضون بشدة خطة نتنياهو المسماة "احتلال غزة"، ويسوّغون ذلك بادعاء أن عملية "مركبات جدعون" قد جلبت حماس إلى طاولة المفاوضات، وكان بالإمكان التوصّل معها إلى صفقة تبادل لتحرير جزء من الأسرى الإسرائيليين قبل نحو شهر، وأن الخطة ستفضي إلى مقتل غالبية الأسرى أو كلهم، إن كان بأيدي آسريهم أو بنيران الجيش الإسرائيلي، ناهيك عن الثمن الإضافي الذي ستدفعه إسرائيل بسقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى من الجنود.
وترجّح القيادة العسكرية كذلك أن عملية "احتلال غزة" ستستغرق من شهرين إلى ثلاثة أشهر على الأقل، فيما ستستغرق عملية "تطهير الأنفاق" في المناطق المذكورة حوالي سنتين، وسيكون الجيش الإسرائيلي مضطرًا في نهايتها إلى إقامة "حكم عسكري" والاهتمام باحتياجات مليونين ونصف مليون فلسطيني.
كما ستحتاج هذه العملية، وفقًا للجيش، إلى تجنيد عشرات الآلاف من جنود الاحتياط، وإعادة جميع وحدات الجيش النظامي إلى ساحات القتال في قطاع غزة خلال الأيام القريبة، وسيُضطر الجنود إلى القتال خلال جميع الأشهر القريبة، بما فيها فترة الأعياد اليهودية القادمة.
وفي وقت قد تنتهي فيه الأزمة المتفجّرة بين القيادتين العسكرية والسياسية باستقالة قائد أركان الجيش، الذي بدأ يتعرض لهجوم كاسح من زوجة نتنياهو ونجله وأوساط مقربة منه بسبب معارضته لخطة "احتلال غزة"، فإن الجيش يعاني من أزمات داخلية، أبرزها الأزمة التي انفجرت بين قائد المنطقة الجنوبية وقائد سلاح الجو، وقيام الأخير بفرض رقابة على التوجيهات العسكرية التي يصدرها قائد المنطقة الجنوبية لسلاح الجو، واتهامه بـ"يد غير مهنية على الزناد"، واستعمال الغارات الجوية لتفريغ الإحباط عبر تفعيل النيران لقتل مدنيين.
وفي إشارة إلى مستوى الإحباط الذي يسود القيادة العسكرية في الميدان، يقول قائد سلاح الجو إنه اضطر إلى التدخّل في الأوامر العسكرية التي يصدرها قائد الجبهة الجنوبية، بعد أن لمس انعدام المهنية في الكثير من الهجمات التي نفّذها هذا القائد خلال الأشهر الأخيرة، فيما يسود شعور في سلاح الجو وفي "أمان" بأن هناك هبوطًا في الأهداف النوعية، وزيادة في الهجمات العنيفة، وتضاؤلًا في الاهتمام بكمية القتلى بين المدنيين، دون أن يقود ذلك إلى تحسّن في النتائج العملياتية، وهو ما يُعزى إلى العملية الجديدة "مركبات جدعون"، وإلى دخول قائد الجبهة الجنوبية الجديد، الجنرال ينيف عسور، الذي يُوصف بأنه من أنصار "النصر المطلق".