الدم الذي لا ينسى
في جبال الأوراس بالجزائر، سقط مليون ونصف المليون شهيدٍ بين 1954 و1962، ليسقط معهم أسطورة "الجزائر الفرنسية". وفي ليبيا، علّق الاستعمار الإيطالي جسد عمر المختار على حبل المشنقة عام 1931، ظانًّا أنّه يشنق معه فكرة التحرر. لكنّ التاريخ أصرّ على كتابة فصل جديد المقاومة لا تموت، اليوم في فلسطين، يُعاد نفس المشهد في 23 يوليو 2025، صوّت الكنيست الإسرائيلي على قرار "سيادة دائمة" يُشرعن ضم الضفة الغربية وغور الأردن. لم يكن هذا التصويت مجرد خطوة سياسية، بل كان إعلان حرب على التاريخ، وعلى القانون، وعلى حتمية المقاومة. فبينما تُقدّم إسرائيل القرار كـ"إجراء أمني"، يُظهر التحليل أن ما يحدث هو مشروع تهويد متكامل لم تُأخذه بالحرب، تحاول استكماله بالسياسة، والتجويع، والانهيار المؤسسي فإسرائيل تحاول فرض "نظرية الضم" عبر القوانين والتجويع، لكن حتمية التاريخ تُذكّرها لا احتلال يدوم. فما الثمن؟
الدم وما النتيجة……. ؟ والانتصار …..
الضم بالقانون: تزوير الواقع عبر التشريع
لم تعد إسرائيل تعتمد فقط على القوة العسكرية، بل حوّلت القانون نفسه إلى أداة ضم. تعديل "قانون أملاك الغائبين" عام 2024 مثّل منعطفًا خطيرًا: فبدلاً من تطبيقه على ممتلكات المهجرين عام 1948، تم توسيعه ليشمل أي فلسطيني يُهدم بيته أو يُجبر على مغادرة أرضه اليوم. أصبح "الغائب" هو كل من يُشرد بفعل سياسة إسرائيل نفسها — فتُستخدم الجريمة كذريعة للاستيلاء.
في موازاة ذلك، تم تفكيك الرقابة القضائية عبر تعديل القانون الأساسي وإلغاء مبدأ "المعقولية"، ما يعني أن الحكومة لم تعد بحاجة إلى تبرير قراراتها أمام المحكمة. هكذا، تُصبح عملية الضم قانونية من الداخل، حتى لو كانت باطلة في كل قانون دولي.
في 23 يوليو 2025، صادقت الحكومة الإسرائيلية على مشروع الضم السياسي للضفة الغربية وغور الأردن كاستراتيجية بديلة بعد فشل الأهداف العسكرية في تحقيق الاستقرار الأمني أو القضاء على البنية التنظيمية الفلسطينية. يُعد هذا المشروع امتدادًا لسياسات تكريس السيطرة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية عبر آليات قانونية وإدارية متشابكة تهدف إلى ترسيخ واقع قانوني جديد يُضعف أي إمكانية لدولة فلسطينية مستقلة. وتشمل هذه الآليات تعديلات تشريعية جوهرية، من أبرزها تعديل قانون أملاك الغائبين لعام 2024، وإضعاف الرقابة القضائية من خلال تعديل القانون الأساسي: السلطة القضائية (تعديل رقم 3)، فضلاً عن سياسات إدارية تستهدف تفكيك صلاحيات السلطة الفلسطينية وتحويلها إلى هيكل بلدي لا يمتلك صلاحيات سيادية. يُشكل هذا المزيج من التدابير ترسانة قانونية متقدمة تُستخدم لتبرير وتنفيذ عملية الضم السياسي تحت غطاء قانوني داخلي وذرائع أمنية.
يُعد تعديل قانون أملاك الغائبين لعام 2024 أحد الركائز القانونية الأساسية لمشروع الضم. كان القانون الأصلي، الصادر عام 1950، يُستخدم لمصادرة أراضٍ من الفلسطينيين الذين غادروا منازلهم خلال حرب 1948، واعتُبر مُلكهم 'مُلك غائب'. وقد تم تعديل القانون في 2024 ليُوسع تعريف 'الغائب' ليشمل الفلسطينيين الذين يهجّرون قسرًا من منازلهم في الضفة الغربية وغور الأردن نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية، مثل عمليات الهدم، أو الإخلاء القسري، أو الإغلاق الأمني للمناطق . وبموجب هذا التعديل، تُعتبر الأراضي التي يُهجّر أصحابها بسبب إجراءات عسكرية أو أمنية 'أراضي غائبين'، وبالتالي تُنقل إدارتها إلى سلطات محلية تابعة للاحتلال، مثل المجالس الإقليمية الاستيطانية. يُتيح هذا التحوّل تحويل الأراضي الفلسطينية إلى ممتلكات تُدار بمقتضى القوانين الإسرائيلية، مما يُضعف الادعاءات الفلسطينية بالملكية ويُرسّخ السيطرة الإسرائيلية على المدى الطويل. ويُنظر إلى هذا التعديل على أنه جزء من خطة أوسع تُعرف بـ'الترانسفير الناعم'، والتي تم تسريبها في وثيقة الكاتب الإسرائيلي يهودا كيدار، وتهدف إلى تشجيع أو إجبار الفلسطينيين على مغادرة مناطق معينة من خلال خلق بيئة غير قابلة للعيش، مع تجنب صورة الترحيل الجماعي المباشر . وهكذا، يُستخدم القانون ليس فقط لمصادرة الأراضي، بل أيضًا كأداة لإعادة تشكيل التركيبة السكانية للمنطقة.
إلى جانب التعديلات التشريعية المتعلقة بالأراضي، يُعد تعديل القانون الأساسي: السلطة القضائية (تعديل رقم 3)، الذي دخل حيز التنفيذ في 1 يناير 2024، عنصرًا حاسمًا في تمكين الضم السياسي. ينص هذا التعديل على إلغاء صلاحية المحاكم الإسرائيلية في مراجعة قرارات الحكومة ورئيس الوزراء والوزراء بناءً على معيار 'المعقولية' (reasonableness)، وهو مبدأ قانوني كان يُستخدم منذ عقود للطعن في قرارات إدارية تُعتبر تعسفية أو غير مبررة من الناحية العامة . وبإلغاء هذا المعيار، تُصبح الحكومة محصنة من الرقابة القضائية في مجالات حساسة مثل التعيينات، وتوزيع الموارد، واتخاذ القرارات الأمنية المتعلقة بالضفة الغربية. وقد أكدت المحكمة العليا الإسرائيلية في حكمها التاريخي الصادر في 1 يناير 2024 أن هذا التعديل يُشكل 'انحرافًا عن الأسس الدستورية للدولة'، ويُضعف مبدأ فصل السلطات، ويُهدد سيادة القانون، ويخلق فجوات دستورية خطيرة تترك المواطنين، بما في ذلك الفلسطينيون الخاضعون للسيطرة الإسرائيلية، دون حماية قضائية فعالة . ويشير هذا الحكم إلى أن تقويض الرقابة القضائية لا يُعد مجرد تغيير إجرائي، بل يُمثل تحولًا جوهريًا في بنية الحكم في إسرائيل نحو مركزية السلطة التنفيذية.
كما تُستخدم السياسات الإدارية لتقويض السلطة الفلسطينية ككيان سياسي مستقل. فقد بدأت إسرائيل بتطبيق سياسة تُحوّل بموجبها صلاحيات السلطة الفلسطينية إلى هيئات بلدية محلية، تُدار تحت إشراف مباشر من الإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية. ويُفهم من هذه الخطوة أنها محاولة لتغيير طبيعة العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين من علاقة بين طرفين سياسيين إلى علاقة بين دولة تحتل وأفراد خاضعين لإدارة بلدية. ويُعزز هذا النهج من خلال رفض إسرائيل الاعتراف بالسلطة الفلسطينية ككيان شرعي، وفرض قيود متزايدة على تحركات قادتها وموظفيها، وتقييد ميزانيتها، واعتقال كوادرها. وتدعم تقارير الأمم المتحدة هذا التحليل، حيث تشير لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة لمجلس حقوق الإنسان إلى أن هذه السياسات تُشكل جزءًا من مشروع أوسع لتدمير البنية المؤسسية الفلسطينية، بما في ذلك المدارس والجامعات والمواقع الثقافية، بهدف 'محو الهوية الفلسطينية' . فبين 7 أكتوبر 2023 و25 فبراير 2025، دُمر 85 مدرسة بالكامل في غزة، واستُهدفت 403 مدارس، كما تم اعتقال 327 طالبًا و172 من الكوادر التعليمية في الضفة الغربية، وأُغلقت 59 مدرسة، مما يُضعف القدرة الفلسطينية على بناء مؤسسات تعليمية وثقافية مستقلة .
رغم الانتقادات الدولية، تبرر إسرائيل هذه الآليات بحجة 'الضرورة الأمنية'، مشيرة إلى أن مصادرة الأراضي وتعزيز السيطرة الإدارية ضروريان لمنع التهديدات الأمنية من داخل الضفة الغربية. إلا أن هذه الحجة تُقابَل بردود قانونية وسياسية قوية. فحتى داخل النظام القضائي الإسرائيلي، رفضت المحكمة العليا التعديلات التشريعية التي تُضعف الرقابة القضائية، مشيرة إلى أنها تُهدد النظام الدستوري نفسه . كما أن توسيع تعريف 'الغائب' ليشمل المُهجّرين قسرًا بسبب الاعتداءات الإسرائيلية يُشكل تناقضًا منطقيًا، إذ تُستخدم الجريمة (الهدم أو الإخلاء) كمبرر للاستيلاء على الممتلكات. ويشير هذا إلى أن الآليات القانونية لا تُطبّق لتحقيق الأمن، بل لتحقيق أهداف سياسية مسبقة تتعلق بالسيطرة على الأرض وتغيير الواقع الديموغرافي.
باختصار، تُسهّل هذه الآليات القانونية والإدارية الضم السياسي من خلال خلق واقع قانوني يُشرعن فيه الاستيلاء على الأراضي، ويُضعف فيه الرقابة القضائية، وتُلغى فيه الصفة السياسية للهوية الفلسطينية. وعبر دمج التعديلات التشريعية مع السياسات الإدارية والأمنية، تُعيد إسرائيل تشكيل المشهد القانوني في الضفة الغربية وغور الأردن بطريقة تُعزز السيطرة الدائمة وتُقلل من فرص قيام دولة فلسطينية مستقلة
التجويع كاستراتيجية: تدمير الحياة قبل الأرض
في غور الأردن، السلة الغذائية لفلسطين، دُمّر 40% من الأراضي الزراعية، وهُدِمت 1200 بئر مياه، وقُطع الماء عن 97% من المزارعين. هذا ليس إهمالاً، بل سياسة منهجية. وفق تقرير البنك الدولي (2025)، الهدف هو تجويع الفلسطينيين ليس جسدياً فقط، بل وجودياً تدمير مصادر العيش، وفرض بيئة غير قابلة للحياة، لدفعهم إلى "الرحيل الطوعي".
نفس السياسة تُطبّق في غزة، حيث دُمّر 93% من القطاع الزراعي، وقُتل 1050 قارب صيد، وحُرقت 226 ألف شجرة زيتون. المجاعة انتشرت بسرعة قياسية، وبلغ 80% من السكان حالة "الجوع الكارثي" بحلول يوليو 2024. الأمم المتحدة صرّحت: "هذا أسرع تجويع جماعي في التاريخ الحديث".
والمفارقة الأكبر؟ تُستخدم المساعدات الإنسانية كأداة سيطرة. 850 فلسطينياً قُتلوا وهم ينتظرون رغيف خبز من شاحنات تديرها إسرائيل والولايات المتحدة. الغذاء أصبح سلعة تُمنح كـ"عفو"، لا كحق.
تشير الأدلة الدولية إلى أن سياسة التجويع الممنهج في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولا سيما في غور الأردن والضفة الغربية، لا تمثل مجرد تداعيات جانبية للصراع، بل تشكل جزءًا من استراتيجية مُخطَّط لها تهدف إلى إعادة تشكيل الواقع الديموغرافي وتسهيل عمليات الضم السياسي. يوثق تقرير البنك الدولي لشهر يونيو 2025 تدمير 40% من الأراضي الزراعية في غور الأردن نتيجة لهدم 1,200 بئر مياه وتحويل 85% من الأراضي الزراعية إلى مناطق عسكرية مغلقة، ما يشير إلى تدخل منهجي يستهدف جذور الاقتصاد الزراعي المحلي . هذا التدمير لا يقتصر على فقدان وسائل العيش، بل يمتد إلى تقويض القدرة على الاستمرار في السكن، حيث يُعد الوصول إلى المياه عنصرًا حيويًا في البقاء في البيئات القاحلة مثل غور الأردن. فقد تم قطع المياه عن 97% من آبار المنطقة، وهي نسبة تفوق بكثير أي مبرر أمني مُحتمل، وتشير إلى نية استراتيجية لتغيير بيئة الحياة الأساسية . هذه الأرقام الكمية، التي تُظهر تدميرًا شبه كامل للبنية التحتية الزراعية، تُفسر ضمن سياق أوسع يربط بين تدمير الموارد الطبيعية وفرض تغيير ديموغرافي قسري. وفقًا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن 2.1 مليون شخص في مناطق الضفة وغزة معرضون لخطر الجوع الشديد، وهو ما يُعزى جزئيًا إلى هذه السياسات .
من الناحية القانونية، تصنف هذه الإجراءات انتهاكًا صريحًا للمواثيق الدولية. يشير تقرير مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة (A/HRC/58/73) إلى أن تدمير البنية التحتية الزراعية وقطع المياه يشكلان انتهاكًا للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر على الدولة القائمة بالاحتلال نقل سكانها إلى الأراضي المحتلة أو إجبار السكان الأصليين على النزوح . تُعد المادة 49 إحدى الركائز الأساسية في حماية السكان المدنيين من التهجير القسري، وتصنيف إسرائيل لهذه الإجراءات على أنها تدابير أمنية لا يُقبل قانونيًا عندما تكون النتيجة تدمير شامل للبنية الحياتية للمجتمعات المحلية. يُعزز هذا التصنيف تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة مايكل فاخري (A/79/171)، الذي يؤكد أن الحصار المفروض على غزة منذ أكتوبر 2023، والذي يمتد مفهومه إلى الضفة الغربية، هو سياسة متعمدة لاستخدام الجوع كوسيلة للحرب، وهو ما يُصنف ضمن جرائم الحرب بموجب البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف .
ويُلاحظ تطابق في الآليات بين الضفة الغربية وقطاع غزة، رغم اختلاف السياق الجغرافي والسياسي. في غزة، دُمر 93% من قطاع الزراعة والغابات والصيد، بما في ذلك تدمير الموانئ، وحرث الأراضي، وحرق 226,000 شجرة، وقتل 1,050 قارب صيد، ما أدى إلى انهيار كامل لقطاع يوظف 6,000 عامل بشكل مباشر أو غير مباشر . يُظهر هذا التدمير الشامل نمطًا استراتيجيًا يتجاوز الحاجة العسكرية، حيث يتم استهداف كل عنصر من عناصر الإنتاج الغذائي، من التربة إلى التوزيع. هذا النمط يُكرر في غور الأردن، حيث يتم تحويل الأراضي الزراعية إلى مناطق عسكرية مغلقة، ما يمنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم، في حين تُسمح الأنشطة الزراعية للاستيطان الإسرائيلي في نفس المنطقة . هذه التناقضات تشير إلى تحيز ممنهج في توزيع الموارد، يُستخدم كأداة للتهويد الجغرافي والديموغرافي.
رغم ذلك، تقدم السلطات الإسرائيلية حجة مفادها أن هذه الإجراءات تُفرض لأسباب أمنية، وتحت مبرر ضرورة عسكرية. إلا أن هذه الحجة تُضعف أمام الأدلة الكمية والنوعية. فتقرير المقرر الخاص مايكل فاخري (A/79/171) يوضح أن الحصار على غزة ليس ردًا طارئًا على تهديد أمني، بل هو جزء من سياسة مخططة منذ سنوات، حيث صرح مستشار رئيس الوزراء الإسرائيلي دوف ويسغلس في 2006 أن الهدف هو 'وضع الفلسطينيين على نظام غذائي' دون الوصول إلى حد المجاعة، ما يكشف عن نية استراتيجية واضحة . إضافة إلى ذلك، يصف تقرير سري صادر عن وحدة حقوق الإنسان في الاتحاد الأوروبي (نوفمبر 2024) سياسة التجويع بأنها 'انتهاك واضح للقانون الإنساني الدولي'، ويشير إلى أن الإجراءات تتجاوز أي مبرر عسكري مُعتد به، وتشكل جزءًا من نمط منهجي من الانتهاكات . هذا التقرير، الذي عُرض على وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، يُوصي باتخاذ إجراءات سياسية واقتصادية رادعة، بما في ذلك وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل، ما يعكس رفضًا أوروبيًا متزايدًا لهذه السياسات .
من الجدير بالذكر أن هذه السياسات لا تحدث في فراغ، بل تندرج ضمن مشروع استيطاني أوسع يمتد منذ النكبة عام 1948. يربط تقرير فاخري بين سياسات التجويع والاستعمار الاستيطاني، موضحًا أن تجريم حق العودة، وتدمير سجلات الأراضي، وتحويل 93% من أراضي إسرائيل إلى ملكية حكومية حصرًا لليهود، هي عناصر متداخلة في مشروع تهجير منهجي . في غور الأردن، حيث تُعتبر الأراضي من أكثر المناطق خصوبة في الضفة الغربية، يُستخدم التدمير الممنهج للبنية التحتية الزراعية لدفع السكان الفلسطينيين إلى النزوح الطوعي، ما يخلق واقعًا ديموغرافيًا يسهل ضم المنطقة إلى السيادة الإسرائيلية دون إجراءات قانونية رسمية. هذا النهج، المعروف بـ'الضم غير الرسمي'، يعتمد على خلق بيئة غير قابلة للحياة بدلًا من استخدام القوة المباشرة، مما يقلل من الردة الفعل الدولية.
رغم وضوح الأدلة، تبقى هناك فجوات في الرصد المستقل والوصول إلى المناطق المغلقة، ما يعيق توثيق كامل للأضرار. كما أن توزيع المساعدات الإنسانية يُدار جزئيًا من قبل مؤسسة المساعدات الإنسانية في غزة (GHF)، التي تُدار بالتعاون بين الولايات المتحدة وإسرائيل، ويتم توزيع المساعدات من خلال أربع نقاط فقط من أصل 400 كانت تعمل قبل أكتوبر 2023، ما يُضعف فعالية الاستجابة الإنسانية ويُحتمل استخدامها كأداة سياسية . علاوة على ذلك، سُجل مقتل أكثر من 850 فلسطينيًا أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء من مواقع GHF، ما يشير إلى أن الوصول إلى الغذاء بات جريمة قابلة للعقاب بالموت . هذه الظاهرة تُعيد تعريف مفهوم التجويع ليس كنقص في الغذاء فحسب، بل كآلية قمعية تُستخدم لفرض الطاعة والتهجير.
يُظهر التحليل أن التجويع في غور الأردن والضفة الغربية لا يُعد مجرد نتيجة للحصار أو النزاع، بل هو أداة استراتيجية مُنظمة تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية من خلال تدمير البنية التحتية الزراعية وقطع المياه. هذه السياسة، المدعومة ببيانات كمية دقيقة وتقييمات قانونية دولية، تُشكل انتهاكًا صريحًا للقانون الإنساني الدولي، وتُستخدم لخلق واقع ديموغرافي يُسهل الضم السياسي دون الحاجة إلى إعلانات رسمية. يُوصى بإجراء مزيد من الدراسات الميدانية المستقلة، مع التركيز على تأثيرات التغير المناخي ونقص المياه على القدرة على الصمود، وكذلك تحليل دور الشركات الدولية في دعم البنية التحتية الاستيطانية التي تُستخدم للاستيلاء على الموارد. كما يُستدعا إلى تعزيز الآليات الدولية لملاحقة مرتكبي جرائم الحرب المتعلقة بالتجويع، بما في ذلك دعم طلبات المحكمة الجنائية الدولية بإصدار أوامر اعتقال ضد المسؤولين الإسرائيليين المتهمين بهذه الجرائم .
الضغط الدولي: لعبة "نزع السلاح" مقابل الصمت على الضم
عقد المجتمع الدولي مؤتمراتٍ "لحل الدولتين"، لكن شروطه كشفت ازدواجية مريبة:
- الشرط المزدوج : مطالبة الفلسطينيين بنزع سلاح المقاومة، بينما تواصل إسرائيل بناء المستوطنات .
- التواطؤ الخفي : وثائق سرية تكشف تنسيقاً أمنياً بين إسرائيل ومصر والإمارات والبحرين لقمع المقاومة في الضفة .
"أوروبا تدين الضمّ باللسان، وتُموله بالسلاح" — وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول، أغسطس 2025
تشير الوثيقة النهائية للمؤتمر الدولي حول حل الدولتين، التي تم التوصل إليها في يوليو 2025، إلى ما يمكن تسميته بـ"الشرط المزدوج" الذي يُفرض على الفلسطينيين كجزء من الإطار الدولي لوقف الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة والضفة الغربية . هذا الشرط يتمثل في ربط وقف الإجراءات العسكرية الإسرائيلية بنزع سلاح المقاومة الفلسطينية، وخاصة حركة حماس، كشرط مسبق لإنهاء الحرب، وهو ما يشكل انحيازاً واضحاً في توزيع الأعباء بين الطرفين المتنازعين. إذ بينما تُحمّل الوثيقة الفلسطينية مسؤولية تهيئة بيئة آمنة من خلال نزع السلاح، فإنها لا تُلزم إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية أو الاستيطانية بشكل مماثل كشرط مسبق، مما يُظهر تفاوتاً جوهرياً في المعايير الدولية المطبقة . هذا الترتيب يعكس سياسة الضغط الدولي المزدوج التي تمارسها القوى الغربية، والتي تُركّز على تجريم المقاومة الفلسطينية بينما تُهمّش الانتهاكات الإسرائيلية المنهجية للقانون الدولي. وقد تجلّت هذه السياسة بوضوح في تصريحات عدد من المسؤولين الغربيين، وعلى رأسهم دونالد ترامب وماركو يتكوف، اللذان اشترطا 'استسلام حماس' كشرط لتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، دون أن يُقدما أي ضمانات مماثلة بشأن وقف القصف أو رفع الحصار . هذا الموقف يُكرس منطق القوة بدلاً من منطق القانون، ويعزز صورة الصراع على أنه ناتج عن 'إرهاب' فلسطيني بدلاً من كونه نتاجاً لاحتلال مستمر منذ أكثر من سبعة عقود.
في هذا السياق، تبرز ألمانيا كحالة دراسية مثيرة للتأمل في تناقضات السياسة الأوروبية تجاه القضية الفلسطينية. ففي 5 أغسطس 2025، زار وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول الضفة الغربية، حيث أصدر تحذيراً واضحاً من أن أي محاولة إسرائيلية لتنفيذ خطط ضم أحادية في الأراضي الفلسطينية ستُسرّع من اعتراف ألمانيا بدولة فلسطين . وقد وصف فاديفول أي إجراء من هذا القبيل بـ"أوهام الضم"، مُشدداً على أن برلين لن تعترف بأي تغييرات حدودية تُفرض بالقوة، ومؤكداً رفض ألمانيا القاطع لاستخدام التجويع كأداة حرب، في إشارة مباشرة إلى الحصار المفروض على غزة . كما ربط فاديفول استمرار التعاون الأمني بين ألمانيا وإسرائيل بوقف التوسع الاستيطاني، وهو موقف يحمل بعداً سياسياً وقانونياً مهماً، إذ يُقدّم التعاون الأمني كأداة ضغط بدلاً من كونه دعماً غير مشروط . ومع ذلك، فإن هذا الموقف الفردي لا يُترجم إلى سياسة أوروبية موحدة، حيث يُظهر فشل الاتحاد الأوروبي في فرض عقوبات ملموسة على إسرائيل، رغم تكرار الإدانات الشكلية، تناقضاً حاداً بين الخطاب السياسي والممارسة العملية . هذا الفشل يُضعف المصداقية الأوروبية كفاعل دولي محايد، ويفسح المجال أمام إسرائيل لمواصلة سياساتها الاستيطانية دون عواقب فعلية.
إلى جانب الضغوط الرسمية، تُكشف وثائق سرية عن بُعد آخر من أبعاد الضغط الدولي: التعاون الأمني السري بين إسرائيل وبعض الدول العربية، والذي يستمر رغم المواقف الرسمية الرافضة للحرب على غزة. فقد كشف تقرير سري صادر عن مركز دراسات الوحدة العربية عن لقاءات أمنية متكررة بين إسرائيل وكل من مصر والإمارات والبحرين بعد 7 أكتوبر 2023، ركّزت على تبادل المعلومات الاستخباراتية حول نشاطات المقاومة الفلسطينية، وتنسيق العمليات الأمنية في الضفة الغربية، بما في ذلك تقييد تحركات السلطة الفلسطينية نفسها . هذه اللقاءات، التي تُجرى خارج الأضواء الإعلامية، تُظهر كيف تُستخدم العلاقات الأمنية كأداة للتأثير على الوضع الفلسطيني الداخلي، وتُعزز من قدرة إسرائيل على فرض واقع أمني يخدم سياسات الضم والتوسع. ورغم أن هذه الدول تُعلن دعمها للقضية الفلسطينية على المستوى الدبلوماسي، فإن مشاركتها في هذه الترتيبات الأمنية تُقوّض من موقفها وتجعلها شريكة غير مباشرة في تقويض إمكانية قيام دولة فلسطينية مستقلة.
تُقدّم بعض الدوائر الغربية حجة مفادها أن الضغط على الفلسطينيين، وخاصة عبر مطالبتهم بنزع السلاح، هو "ضروري لتحقيق السلام"، بحجة أن أي تسوية لا يمكن أن تُبنى في ظل وجود ترسانة عسكرية للطرف الفلسطيني. لكن هذه الحجة تتجاهل السياق التاريخي والقانوني للصراع. فنزع السلاح لا يمكن أن يكون شرطاً منفرداً، بينما تستمر إسرائيل في بناء المستوطنات، وهدم المنازل، وفرض الحصار، وارتكاب انتهاكات يومية للقانون الدولي. بل إن الوثيقة العربية الصادرة في يوليو 2025، والتي تضم دول الخليج ومصر، تربط بشكل مباشر بين وقف الحرب ووقف الاستيطان الإسرائيلي، مؤكدة أن الإجراءات الأحادية الجانب تُشكل "تهديداً وجودياً" لحل الدولتين . هذا التوازي في الشروط يُظهر أن أي مطالبة بنزع السلاح الفلسطيني يجب أن تُقابل بوقف كامل للتوسع الاستيطاني، وهو ما لا يحدث في الممارسة الدولية. بل على العكس، تشير تقارير الاستخبارات الألمانية (BND) إلى أن سياسات الضم والتوسع الاستيطاني لا تُقلل من المقاومة، بل على العكس، تُعززها وتُغذيها، لأنها تُرسّخ شعور الفلسطينيين بعدم الجدوى من المسار السلمي . وبالتالي، فإن الضغط الأحادي على الفلسطينيين لا يُسهم في بناء السلام، بل يُعمّق دائرة العنف.
في المحصلة، تُستخدم الضغوط الدولية المزدوجة كأداة لتبرير السياسات الإسرائيلية، وخاصة سياسة الضم. فالتركيز على نزع السلاح الفلسطيني كشرط مسبق يُحوّل الصراع من صراع تحرر وطني إلى صراع ضد "الإرهاب"، مما يُبرر التدخلات العسكرية الإسرائيلية ويُقلل من المسؤولية الدولية عن وقفها. وفي الوقت نفسه، تُستخدم اللقاءات السرية مع الدول العربية لتقويض أي تضامن فلسطيني حقيقي، وتقديم دعم أمني غير معلن لإسرائيل، بينما تُبقي هذه الدول مظاهر دعمها للقضية الفلسطينية على المستوى الدبلوماسي. هذا التناقض بين الخطاب والفعل يُضعف الموقف العربي الجماعي، ويُعزز من قدرة إسرائيل على مواصلة سياساتها التوسعية دون عوائق حقيقية. وعليه، فإن أي جهد دولي حقيقي لتحقيق السلام يجب أن يُعيد توازن الضغوط، بحيث لا يُطلب من الفلسطينيين تقديم تنازلات أمنية كبيرة بينما تبقى إسرائيل حرة في تغيير الوضع القائم على الأرض. وبدون هذا التوازن، فإن شرط نزع السلاح لن يكون سوى وسيلة لإطالة أمد الاحتلال، وليس خطوة نحو إنهائه.
تأثير المقاومة الفلسطينية وتحول الصراع إلى حرب متعددة الجبهات
المقاومة تعيد كتابة المعادلة
لكن التاريخ لا يُكتَب فقط بالقوانين والقرارات. يُكتَب بالمقاومة. تقرير الاستخبارات الألمانية (BND) كشف: "الضم يدفع المنطقة نحو حرب متعددة الجبهات: جهاد فلسطيني، صواريخ حزب الله، وتمرد فلسطينيي 48". كل مستوطن جديد في الضفة يكلّف إسرائيل 3 جنود على خطوط المواجهة — حسب مركز راند.
والمفاجأة؟ المقاومة تنتقل من الدفاع إلى الهجوم. في جنين، طوّرت كتائب المقاومة صواريخ محلية (Ayyash 250). في غزة، تحولت أنفاق المقاومة إلى شبكة دفاع متطورة. وفي الضفة، تُشكّل "القيادة الوطنية الموحدة" بديلاً عن سلطة أوسلو التي تآكلت.
أظهر التقرير الصادر عن دائرة الاستخبارات الاتحادية الألمانية (BND) في مارس 2025 تحولاً جوهرياً في طبيعة الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، حيث تحول من صراع محلي محدود إلى حرب متعددة الجبهات تتداخل فيها محوريات جيوسياسية إقليمية وتنظيمية متعددة . وفقاً للتقرير، فإن هذا التحول يتمثل في تعاون متنامٍ بين حزب الله في جنوب لبنان، والفصائل المسلحة الفلسطينية في الضفة الغربية، والجماعات الموالية لإيران في سوريا، بالإضافة إلى تحركات مسلحة في اليمن تُنسق بشكل غير مباشر مع محور المقاومة. ويشير التقرير إلى أن هذا الترابط العملياتي يُشكل تحدياً استراتيجياً مباشراً أمام الدولة الإسرائيلية، خصوصاً في سياق تنفيذ مشروع الضم في الضفة الغربية، حيث تشير التقديرات إلى أن أي تحرك أحادي الجانب نحو ضم مناطق (ج) أو تعزيز السيطرة الإدارية على مناطق (أ) و(ب) قد يُقابل بتصعيد متناسق عبر هذه الجبهات، ما يُهدد بتوسيع نطاق الصراع بشكل يصعب احتواؤه عسكرياً أو لوجستياً . وتشير التقديرات الاستخباراتية إلى أن هذا التعاون يتم عبر قنوات اتصال مشفرة، وتبادل لوجستي محدود للذخائر، وتدريبات مشتركة افتراضية عبر منصات رقمية، ما يعزز من قدرة هذه الجماعات على تنسيق عمليات معاكسة في توقيتات متزامنة، خاصة في مناطق التماس مثل الخليل ونابلس في الضفة، وحول خط الحدود مع لبنان .
على الصعيد الميداني في الضفة الغربية، تُظهر البيانات النوعية ارتفاعاً ملحوظاً في حدة المقاومة الفلسطينية، والتي تُترجم إلى تقويض القدرة الإسرائيلية على تنفيذ سياسات الضم. فقد سجلت حوادث العنف التي يمارسها المستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين ارتفاعاً من 108 حادثة شهرياً في عام 2023 إلى 118 حادثة شهرياً في الفترة من نوفمبر 2023 إلى أكتوبر 2024، ما يعكس تصعيداً في المواجهات اليومية وزيادة في التوتر الأمني . وترافق هذا مع تهجير قسري لـ4,527 فلسطينياً نتيجة هدم 214 مبنى سكنياً في القدس الشرقية وحدها، ما يشير إلى تعميق سياسة التهجير الهيكلي التي تُستخدم كأداة لتهيئة بيئة مواتية للضم، لكنها في المقابل تُغذي ديناميات المقاومة المحلية . ويُعزى هذا التصاعد إلى حالة الإفلات من العقاب التي تُشجع المستوطنين على تنفيذ اعتداءات ممنهجة، وفق ما أكّدته المفوضية السامية لحقوق الإنسان، مما يُضعف من الشرعية القانونية والسياسية لأي خطوة رسمية نحو الضم .
كما تُظهر الانتهاكات الإسرائيلية للبنية التعليمية في الأراضي الفلسطينية، لا سيما في قطاع غزة، نية استراتيجية لتقويض المؤسسات التي تُشكل ركيزة للهوية الفلسطينية، وبالتالي إزالة العقبات المحتملة أمام مشروع الضم الطويل الأمد. وفق تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلة (A/HRC/59/26)، فقد تم تدمير 85 مدرسة بالكامل في غزة بين 7 أكتوبر 2023 و25 فبراير 2025، بينما تضررت 403 من أصل 564 مبنى مدرسياً، ما أثر على أكثر من 435 ألف طالب و16 ألف معلم . ويُظهر التقرير أن القوات الإسرائيلية أقرت بمسؤوليتها عن ضربات جوية استهدفت مدارس، ووصفت بعضها بـ"مدارس سابقة"، رغم استمرار استخدامها كملاجئ أو كمراكز تعليمية مؤقتة . ومن الأمثلة البارزة تدمير مدرسة صلاح الدين في أغسطس 2024، ما أدى إلى مقتل 4 أشخاص بينهم أطفال، وتدمير مدرسة الأفلح/الزيتون في نوفمبر 2023، حيث قُتل 20 شخصاً على الأقل . كما تم تدمير حرم جامعة الإسراء في الزهرة في يناير 2024 من قبل وحدات هندسية قتالية إسرائيلية، دون أن تجد اللجنة أدلة على استخدام حماس للموقع لأغراض عسكرية، بل وثّقت أخطاء في التخطيط الجغرافي استندت إليها القوات الإسرائيلية . وتشير مقاطع الفيديو التي تم توثيقها إلى جنود إسرائيليين يرقصون على أنقاض الجامعة، ما يُعزز فرضية أن التدمير كان عقابياً أو تدميرياً مقصوداً، وليس له دافع عسكري مشروع .
في السياق نفسه، فإن تدمير البنية التعليمية لا يُعد فقط انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، بل يُمثل أداة تدميرية للهوية الجماعية الفلسطينية، حيث تُفقد الأجيال القادمة من مراكز التعلم، وتُقوض قدرة المجتمع على إعادة بناء مؤسساته المدنية، وهو ما يُسهل على إسرائيل فرض واقع قانوني وإداري جديد في حال تنفيذ الضم . كما أن استخدام القوات الإسرائيلية لمرافق تعليمية كقواعد عسكرية، مثل استخدام حرم جامعة الأزهر في المغراقة كمقر عسكري ومخزن أسلحة، ثم تحويل جزء منه إلى كنيس، يُشكل انتهاكاً صريحاً لمبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، وفق القانون الدولي الإنساني .
من الناحية اللوجستية، تُواجه إسرائيل تحديات عملية تُعيق تنفيذ الضم، أبرزها رصف عشرات الطرق غير المصرح بها حول المستوطنات والبؤر الاستيطانية في الضفة الغربية، ما يُحد من حركة الفلسطينيين ويُسهل مصادرة الأراضي، لكنه في الوقت نفسه يُفاقم من الاستياء الشعبي ويُحفز المقاومة المسلحة . وتشير التقارير إلى أن هذه الطرق تُستخدم لربط البؤر الاستيطانية ببعضها، وتمكين المستوطنين من التنقل دون المرور عبر الطرق الفلسطينية، ما يُشكل تجزئة فعلية للجغرافيا الفلسطينية ويزيد من صعوبة إدارة أي كيان فلسطيني مستقبلي . كما أن الإسقاط الجوي المحدود للمساعدات الإنسانية، مثل جهود ألمانيا في إسقاط مساعدات غذائية طبية، له تأثير محدود على استقرار السكان في غزة، حيث أكد وزير الدفاع الألماني أن هذه الوسائل لا يمكن أن تُحل محل دخول الشاحنات عبر المعابر، مما يُبقي الوضع الإنساني في تدهور مستمر، ويُغذي بيئة من السخط تُستخدم كأرضية لتجنيد المقاومة .
تُثار أحياناً حجة معاكسة تزعم أن تصاعد المقاومة الفلسطينية يُعزز من حجج إسرائيل الأمنية لتنفيذ الضم، بحجة أن الوجود الفلسطيني المنظم يُشكل تهديداً وجودياً. إلا أن تقرير BND يُفنّد هذه الحجة بوضوح، حيث يشير إلى أن التصعيد المقاوم لا يُبرر الضم، بل يُعقّد جدوله الزمني ويُجبر إسرائيل على تأجيل أي خطوات أحادية الجانب خوفاً من اشلاع حرب إقليمية شاملة . كما أن تدمير المدارس، وفق تقرير الأمم المتحدة، لا يمكن تبريره بأي سياق عسكري، حيث تم تدمير منشآت تعليمية في مناطق لم تكن تخضع لاشتباكات مباشرة، أو تم استهدافها بعد انسحاب القوات، مما يُشير إلى نية مقصودة لتقويض الهوية الفلسطينية وليس لمواجهة تهديد عسكري فوري .
في ظل هذه التحديات الاستراتيجية، تُجبر إسرائيل على الاعتماد المتزايد على آليات غير عسكرية لتحقيق أهداف الضم، مثل فرض الحصار الاقتصادي، وتقييد الحركة، والضغط القانوني من خلال أوامر الهدم والإغلاق الإداري للمؤسسات. ففي الضفة الغربية، تم إغلاق أو تهديد 59 مدرسة فلسطينية بأوامر هدم أو إيقاف عمل، بينما أصدرت بلدية القدس في أبريل 2025 أوامر بإغلاق 6 مدارس تابعة للأونروا في القدس الشرقية خلال 30 يوماً، ما يُشكل تقويضاً ممنهجاً للوجود الفلسطيني التعليمي والثقافي . كما أن الاعتقالات الواسعة للكوادر التعليمية والطلاب، والتي بلغت 327 طالباً و172 من الكوادر التعليمية في الضفة الغربية وحدها، تُعد جزءاً من استراتيجية تضييق الخناق على المؤسسات الفلسطينية . وفي إسرائيل نفسها، تم اتخاذ إجراءات تأديبية ضد 124 طالباً جامعياً، وفصل معلمين، واعتقال أكاديميين فلسطينيي الهوية، ما يُظهر تمدد هذه الاستراتيجية إلى الداخل الإسرائيلي، بهدف تجريم التعبير التضامني مع الفلسطينيين . هذه الآليات، وإن كانت لا تُشكل ضماً رسمياً، إلا أنها تُحقق أهدافه التدريجية من خلال تغيير الوضع القائم وفرض واقع جديد يصعب عكسه لاحقاً.
استراتيجية تهويد الأرض: التكامل بين سياسات الاستعمار الاستيطاني المستمر
تُشكل السياسات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، ولا سيما في الضفة الغربية وقطاع غزة، جزءًا من استراتيجية تهويد منهجية ومتكاملة تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية والجغرافية للمنطقة، وتمكين الضم السياسي الدائم من خلال وسائل قسرية اقتصادية وقانونية وإنسانية. وفق تقرير المقرر الخاص للأمم المتحدة مايكل فاخري (A/79/171)، فإن سياسة التجويع في قطاع غزة ليست مجرد أداة عسكرية تكتيكية، بل تُعد جزءًا من مشروع استعماري استيطاني أوسع يمتد منذ العام 1948، ويستهدف محو الوجود الفلسطيني الجماعي من خلال ما يوصف بـ"الإبادة غير المباشرة" عبر تدمير البنية الحياتية الأساسية . يُظهر هذا التقرير كيف تم ربط عمليات التجويع بسياسات الضم في الضفة الغربية من خلال آليات قانونية مؤسسية، تدمير منهجي للبنية التحتية، وتخطيط ديموغرافي طويل الأمد، مما يشكل استراتيجية متكاملة تتجاوز التمييز الجغرافي بين الضفة وغزة.
على الصعيد المؤسسي، يتجلى هذا التكامل في تعديلات قانون أملاك الغائبين لعام 2024، التي وسّعت من صلاحيات الدولة الإسرائيلية في مصادرة الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة تحت ذريعة "الأمن القومي"، مع تغيير تعريف "الغائب" ليشمل الفلسطينيين الذين يُجبرون على مغادرة منازلهم نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المباشرة . هذا التعديل القانوني يُعيد تشكيل العلاقة بين السكان والأرض، حيث يتم تحويل إدارة الأراضي المصادرة إلى سلطات محلية تابعة للاحتلال، ما يعزز عملية الاستيطان ويفكك صلاحيات السلطة الفلسطينية تدريجيًا، في ما يُعرف بـ"الترانسفير الناعم". وفق وثيقة 'كيدار' التي تحلل هذه السياسات، فإن الهدف الاستراتيجي هو تفكيك الوجود الفلسطيني المؤسسي والجغرافي عبر تحويل المناطق إلى مناطق عسكرية مغلقة أو مناطق خاضعة للإدارة الاستيطانية، مع منع أي تطور اقتصادي أو ديموغرافي فلسطيني مستقل .
في موازاة ذلك، تُطبّق سياسة تجويع منهجية في قطاع غزة تُعد نموذجًا متطرفًا للهيمنة الاستعمارية، حيث تم تدمير 93% من قطاع الزراعة والغابات والصيد، بما في ذلك تدمير الموانئ، وحرث الأراضي الزراعية، وحرق 226,000 شجرة، وتدمير 75% من قطاع الصيد الذي كان يوظف أكثر من 7,500 عاملًا . كما تم قطع المياه عن 97% من آبار غور الأردن في الضفة الغربية، في خطوة تُوصف بأنها جزء من خطة لتجفيف المناطق الزراعية الفلسطينية ودفع السكان إلى النزوح القسري . هذه السياسات لا تقتصر على الحصار المفروض منذ أكتوبر 2023، بل تمتد إلى تدمير شامل للبنية التحتية الحياتية، حيث أسقطت إسرائيل أكثر من 25,000 طن من المتفجرات على غزة، ما يعادل قوة قنبلتين نوويتين، مما أدى إلى انهيار كامل للأنظمة المائية والصحية والزراعية . بحلول يوليو 2024، أعلنت الأمم المتحدة أن المجاعة قد انتشرت في جميع أنحاء قطاع غزة، مع معاناة 80% من السكان من الجوع الكارثي، في أسرع حالة تجويع جماعي في التاريخ الحديث .
من الناحية التاريخية، يمكن رصد استمرارية هذه السياسات عبر سلسلة من القوانين والإجراءات التي تهدف إلى تهميش الفلسطينيين قانونيًا وديموغرافيًا. فقد تم سن قانون دخول وإقامة المواطنين عام 2003، الذي يمنع لم شمل الأسر الفلسطينية بين الضفة وغزة وإسرائيل، مما يُعد امتدادًا لسياسات الفصل السكاني التي بدأت بعد النكبة . كما تم رفع نسبة التصويت المطلوبة للأحزاب السياسية في الكنيست عام 2014 إلى 3.25%، بهدف تهميش الأحزاب العربية وتقييد تمثيلها السياسي . هذه القوانين، إلى جانب مصادرة الأراضي وفرض الضرائب على المؤسسات الدينية والتعليمية في القدس الشرقية، تُشكل حلقة متصلة في مشروع قانوني يهدف إلى تقويض الهوية الفلسطينية وتمكين الهيمنة اليهودية على الأرض .
من الناحية القانونية الدولية، تُعد عمليات الضم في الضفة الغربية جريمة حرب بموجب المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر نقل السكان المدنيين من الدولة المحتلة إلى الأراضي المحتلة، أو ترحيل السكان الأصليين منها . وقد أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن الاستيطان الإسرائيلي يُعد انتهاكًا صريحًا لهذا المبدأ، ويشكل عقبة رئيسية أمام حل الدولتين . كما أن ربط سياسات التجويع بمشروع الإبادة الجماعية قد تم توثيقه رسميًا من خلال قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية، التي قدمتها في 29 ديسمبر 2023، وطلبت فيها إجراءات فورية لوقف المجاعة في غزة . وقد أصدرت المحكمة تدابير مؤقتة في 26 يناير و28 مارس و24 مايو 2024، طالبت فيها إسرائيل بضمان تدفق المساعدات الإنسانية، لكن إسرائيل تجاهلت هذه القرارات، ما يُعد انتهاكًا صريحًا للنظام القانوني الدولي .
رغم وجود حجة مضادة تدّعي أن هذه السياسات ليست جزءًا من استراتيجية متكاملة، بل نتاج ظروف أمنية أو قرارات تكتيكية، إلا أن الأدلة تشير إلى تخطيط استراتيجي منسق. فوثيقة 'كيدار'، التي تُحلل سياسات الترانسفير الناعم، توضح كيف تُستخدم القوانين والإجراءات الاقتصادية كأداة لتهجير الفلسطينيين دون اللجوء إلى العنف المباشر . كما أن تقرير البنك الدولي لفبراير 2025 يُظهر أن تدمير 53% من مواقع التراث الثقافي في غزة، بتكلفة تقدر بـ120 مليون دولار، ليس مجرد تدمير عرضي، بل جزء من عملية منهجية لمحو الهوية الفلسطينية وتمكين إعادة تشكيل السرد الجماعي للمنطقة . هذا التدمير يشمل 85 مدرسة بالكامل و403 مدرسة جزئيًا، إضافة إلى 57 مبنى جامعيًا، مما يُضعف البنية التحتية التعليمية التي تُعد أساسية للاستمرارية الوطنية .
التداعيات المستقبلية لهذه الاستراتيجية تشير إلى احتمال تفكيك نهائي لحل الدولتين، حيث تُصبح الأراضي الفلسطينية المحتلة مناطق مجزأة وغير قابلة للربط جغرافيًا أو ديموغرافيًا. فالسيطرة على غور الأردن، الذي يُعد الشريان الزراعي للضفة الغربية، من خلال هدم 1,200 بئر مياه وتحويل 85% من الأراضي الزراعية إلى مناطق عسكرية مغلقة، تُعد خطوة حاسمة نحو الضم الفعلي . وفي غزة، فإن تدمير البنية التحتية وفرض نظام مساعدات تديره الولايات المتحدة وإسرائيل من خلال أربع نقاط فقط، يُحول السكان إلى معتمدين على قوى خارجية، ما يُضعف أي إمكانية للاستقلال السياسي أو الاقتصادي . هذه السياسات، التي صوّتت 149 دولة لصالح وقف إطلاق النار غير المشروط لمواجهتها، تُظهر أن المجتمع الدولي يدرك خطورتها، لكن غياب آليات تنفيذ فعّالة يُبقي هذه الاستراتيجية قيد التنفيذ دون عوائق جوهرية . من أوسلو إلى التحرر — ما الذي يجب أن تفعله السلطة الفلسطينية؟
السلطة الفلسطينية اليوم تقف على مفترق طرق :
إما أن تُصبح جزءاً من الحل، أو تُصبح جزءاً من المشكلة.
اتفاقيات أوسلو، التي وُقّعت عام 1993، لم تعد تمثل واقعاً سياسياً، بل صارت فخاً قانونياً واقتصادياً وأمنياً. فهي تُلزم الفلسطينيين بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وتُسلّم إيرادات الضرائب لدولة تحتلهم، وتُقيّد حركتهم بـ"منطقة أ"، "منطقة ب"، "منطقة ج"، في حين تُوسّع إسرائيل السيطرة على كل شيء.
لوقف محاولات الضم، ومواجهة سياسات التضييق، ورفض مشروع طرد الفلسطينيين من أرضهم، على السلطة أن تتخذ خطوات جريئة، لا تتردد فيها:
1. إعلان انتهاء اتفاق أوسلو رسمياً
سحب الاعتراف المتبادل، وإلغاء التنسيق الأمني، ووقف تحويل أموال الضرائب لإسرائيل، كرد على خرقها المستمر للاتفاقات.
2. تحويل منظمة التحرير إلى هيئة تحرير وطنية
دمج حماس والجهاد الإسلامي في قيادة موحدة، وإصدار "وثيقة تحرير" تُلغي بنود أوسلو، وتعيد تعريف الصراع كنضال تحرر وطني، لا كمفاوضات على الحدود.
3. إطلاق مقاومة قانونية دولية شاملة
رفع دعاوى ضد إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية، ومقاضاة الشركات الأوروبية العاملة في المستوطنات، واستغلال قوانين "الاستعمار" في المحاكم الأوروبية.
4. إعادة بناء الاقتصاد الفلسطيني المستقل
إطلاق عملة رقمية فلسطينية، ودعم الاقتصادات المحلية، ووقف الاعتماد على الشيكل، وفرض ضرائب على البضائع الإسرائيلية في المناطق الخاضعة للسلطة.
5. إعادة تفعيل الأمة كعنصر ضغط
دعم الجاليات الفلسطينية في الشتات، وإطلاق "برلمان فلسطيني في الخارج"، وتوحيد الخطاب الإعلامي والسياسي لمواجهة حملات التشويه.
السلطة الفلسطينية ليست مطالبة بالبقاء، بل بالتحول.
من "إدارة ذاتية" إلى "قيادة تحرر" من "سلطة أوسلو" إلى "هيئة تحرير وطني".
لأن الضم لن يُوقفه القانون الإسرائيلي،
ولا الحصار، ولا التطبيع.
بل يُوقفه فقط الثمن الباهظ الذي تدفعه إسرائيل مقابل كل بؤرة استيطانية،
كل حيّ تُهدم، كل طفل تُقتله.
وحتمية التاريخ تقول:
كل المستعمرين يرحلون وكل الشعوب تنتصر وليس هناك استثناء لفلسطين.
"أكبر خوف إسرائيلي هو أن تتحول السلطة إلى منظمة مقاضاة دولية تستهدف قادتها بالملاحقة."
- تسريب من مكتب نتنياهو، 2025
"أدوات المواجهة متاحة، لكنها تتطلب إرادة سياسية تفكك نظام أوسلو من داخله."
- مركز الأهرام للدراسات، يوليو 2025
خاتمة : حتمية التاريخ الضم لن يُنهي الصراع، بل يُعيد تأجيله
يُظهر أن سياسات الضم والتجويع في الأراضي الفلسطينية تُشكل جزءًا من استراتيجية استعمارية متكاملة تهدف إلى تهويد الأرض وتغيير هويتها الوطنية. وبينما تواجه هذه السياسات مقاومة محلية ودولية، فإن غياب الإرادة السياسية لتطبيق القوانين الدولية يُبقي الاحتلال الإسرائيلي في حالة استمرارية. لذا، فإن تحقيق العدالة يتطلب تضافر الجهود الدولية والمحلية لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات ودعم الحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف.
لذلك الضم الإسرائيلي ليس نهاية الصراع، بل بداية مرحلة جديدة. إنه محاولة يائسة لفرض واقع دائم، لكنه يُعيد إنتاج أسباب المقاومة. كل بئر مياه تُهدم، وكل بيت يُهدم، وكل طالب يُقتل في مدرسته، هو شهادة جديدة على أن الاحتلال لا يمكنه أن يُشرعن نفسه بالقانون أو التجويع.
السؤال ليس: هل ستنجح إسرائيل في الضم؟
السؤال هو: ما الثمن الذي ستدفعه؟
التاريخ يُثبت أن الشعوب لا تُمحى بالحصار أو التشريع.
والحتمية ليست في قرارات الكنيست،
بل في إرادة من يرفض أن يُستعمر.