انشغل العالم خلال الأشهر الماضية بسلسلة من التقارير التي تفيد بأنّ الحكومة الفرنسية تعتزم الاعتراف بدولة فلسطين خلال مؤتمر "حلّ الدولتين"، الذي كان من المقرّر أن تُعقد فعالياته تحت رعاية الأمم المتحدة في حزيران/يونيو الماضي، بالشراكة مع المملكة العربية السعودية.
وفي أحدث التطورات، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أنّ بلاده ستُعلن رسميًا الاعتراف بفلسطين في أيلول/سبتمبر 2025، بمناسبة انعقاد أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وكما هو متوقّع، وكما تكرّر سابقًا، قوبل هذا الإعلان بمزيج من الترحيب والاستنكار، في مشهد بات مألوفًا للغاية.
أصبح موضوع الاعتراف بالدولة الفلسطينية مبتذلًا إلى حدّ كبير، بعدما تحوّل من وسيلة نضالية إلى غاية شكلية بحدّ ذاتها. فلا يزال من غير الواضح ما الذي يعنيه هذا الاعتراف فعليًا على الأرض.
فما الذي يمكن أن يضيفه الاعتراف رقم 148 بعدما أخفق 147 اعترافًا سابقًا في تغيير الواقع الاستعماري القائم على الأرض؟
قد يرى البعض أنّ اعتراف دول "وازنة" مثل فرنسا قد يشجّع دولًا أخرى على الحذو حذوها، لكنّ السؤال الجوهري يبقى: ما جدوى هذا الاعتراف إذا لم يُرفَق بإجراءات ملموسة لتفكيك بُنى الاستعمار والاستيطان التي تهيمن على حياة الشعب الفلسطيني؟
المفارقة أنّ الولايات المتحدة – الراعي الأساسي للعملية السياسية المزعومة – تعتبر الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية عملًا "غير بنّاء" و"معيقًا للسلام"، في وقت تواصل فيه دعمها العسكري والمالي والسياسي غير المشروط لإسرائيل، حتى خلال ارتكابها جرائم إبادة موثقة في غزّة.
هذا التناقض الفاضح لا يكشف فقط حدود الاعتراف كأداة سياسية، بل يفضح أيضًا نفاق النظام الدولي الذي يكتفي بقرارات دبلوماسية جوفاء يُسوَّق لها كأنّها حلول مصيرية للقضية الفلسطينية، بينما تُبقي البُنى الاستعمارية على حالها بلا مساس.
منذ إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر عام 1988، اعترف الغالبية العظمى من دول العالم بها، إلا أنّ هذا الاعتراف ظلّ في مجمله رمزيًا، ولم يرتقِ إلى خطوات عملية تضمن الحقوق الأساسية للفلسطينيين، سواء داخل فلسطين أو في الشتات.
بل على العكس، تفاقم المشروع الاستعماري على امتداد العقود، وتزايد عدد المستوطنين مع تزايد عدد الاعترافات.
لم يُسهم أيّ من هذه الاعترافات في توفير الحماية للفلسطينيين، بينما واصل المجتمع الدولي مكافأة دولة الاحتلال عبر منحها اتفاقيات تجارية، وإعفاءات من التأشيرات، وحماية مستمرة من أي مساءلة دولية.
وتجسّد حالة الاعتراف الإيرلندي نموذجًا صارخًا لهذا الانفصام بين الدعم الرمزي للفلسطينيين والدعم المادي الفعلي للاحتلال.
فعلى الرغم من إعلان إيرلندا الاعتراف بدولة فلسطين في أعقاب الإبادة الجارية في غزة، لا يزال مطار شانون الإيرلندي مركزًا لوجستيًا محوريًا لنقل الأسلحة الأميركية إلى الشرق الأوسط، ولا سيما إلى دولة الاحتلال.
ومنذ عملية السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وُثّقت أكثر من 100 رحلة من هذا النوع. وبما أنّ الولايات المتحدة تُعدّ المموّل والمزوّد الرئيسي لآلة الحرب الصهيونية، فإنّ استمرار استخدام هذا المطار يجعل من إيرلندا شريكًا غير مباشر في تمكين إسرائيل من مواصلة مذابحها ضد الفلسطينيين.
في الوقت نفسه، أقرّ البرلمان الإيرلندي "مشروع قانون الأراضي المحتلة" الذي يُجرّم التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية، إلا أنّ هذا القانون ظلّ مُجمّدًا لسنوات ولم يدخل حيّز التنفيذ حتى اليوم.
ولو جرى تفعيله فعلًا، أو تمّ حظر المجال الجوي الإيرلندي أمام شحنات الأسلحة المتجهة إلى إسرائيل، لكان لذلك أثر أكبر بكثير من اعتراف رمزي بدولة بلا سيادة أو حدود واضحة.
وهناك العديد من الحالات المشابهة التي تؤكّد أنّ كثيرًا من الدول التي تكتفي بإيماءات رمزية تجاه فلسطين تمتلك أدوات ضغط فعّالة يمكن أن تُحدث فرقًا ملموسًا، لو توفرت لديها الإرادة السياسية الفعلية لذلك، وخاصة في ظلّ الدعم الشعبي الواسع لمثل هذه التدابير التي تُساهم في ردع إسرائيل.
لكن يبدو أنّ هذه الرمزية تُستخدم في كثير من الأحيان كتكتيك للهروب من اتخاذ مواقف حقيقية، وتجنّب التصادم مع الولايات المتحدة، مما يُحوّل "الاعتراف" إلى غطاء أخلاقي فارغ يُخفي العجز أو التواطؤ.
ومع ذلك، يُطلب من الفلسطينيين أن يُبدوا الامتنان إزاء هذه الإيماءات الرمزية، وأن يثقوا مرارًا وتكرارًا في نظام دولي يُفترض أنّه قائم على قواعد القانون؛ نظامٌ ثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنّه وهمي.
حتى الدول التي تروّج له في خطاباتها لا تؤمن به فعلًا، فحين جاءت ساعة الاختبار، لم تتردّد فرنسا في ابتكار الذرائع لعرقلة مذكرة التوقيف الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية بحق بنيامين نتنياهو.
فأيّ قيمة لاعتراف كهذا، لا يُقوّض المنظومة القائمة، بل يُضفي عليها مسحة شرعية زائفة، ويُفرغ التضامن من مضمونه الفعلي؟
ورغم قتامة المشهد، تلوح بعض بوادر الأمل من خلال الحراك الشعبي العالمي المتصاعد.
فالشعوب باتت ترفض الاستعمار الصهيوني بصوت أعلى وأكثر جرأة، ليس فقط في دول الجنوب، بل حتى في قلب دول الشمال.
ويتجلّى ذلك في رفض النقابات التعامل مع السفن المحمّلة بالأسلحة إلى إسرائيل، وفي أعمال التخريب التي تستهدف شركات السلاح المتواطئة، وفي اتساع رقعة العصيان المدني.
ولو أدّت هذه التحرّكات إلى تقليل عدد الرصاصات التي تُطلق على الفلسطينيين – حتى برصاصة واحدة – لكانت أشدّ وقعًا وأكثر نجاعة من اعتراف سياسي في مسار عقيم تجاوزته الوقائع.
نحن نعلم، بالطبع، أنّ المسار الذي رُسم لنا كان مصمَّمًا بدقّة كي لا يؤدّي إلى أيّ شكل من أشكال التحرّر، وقد تجلّت آثار هذا المسار الكارثية اليوم في إبادة جماعية تُرتكب في غزة، وضمّ تدريجي في الضفة الغربية، وعربدة غير مسبوقة على امتداد المنطقة.
لا يمكننا أن نواصل انتقاد واقعنا، وفي الوقت نفسه نحتفي بمحاولات إنعاش سياسات أوصلتنا إلى هذا الانهيار.
لم نعد نملك ترف إضاعة ثلاثين عامًا أخرى في مسرحيات تفاوض عبثية، لن تُفضي إلى التحرير، ولا حتى إلى استقلال رمزي، لأنّ إسرائيل ببساطة لا تقبل – ولن تقبل – بأيّ وجود عربي سيادي في هذه المنطقة.
ومع ذلك، تُهاجَم حتى الاعترافات الرمزية وتُوصَف بأنّها "سابقة لأوانها" و"غير مجدية".
ففي هذا السياق الاستعماري، حتى وهم السيادة المنقوص هذا حين يُسجَّل على ورق يصبح مرفوضًا، لأنّ الاستعمار الصهيوني لا يمكن إرضاؤه إلّا بالفناء.