استعرضت الحكومة الفلسطينية ومعهد ماس وغيره من المؤسسات العامة وعدد كبير من الخبراء وممثلي القطاع الخاص، الأزمة الاقتصادية العامة التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني بشكل عام، وأزمة المقاصة المستفحلة وتأثيرها المباشر على جمهور موظفي الخدمة المدنية وقوى الأمن الفلسطيني، وخاصة في الضفة الغربية.

وفي المراجعة النهائية لأسباب هذه الأزمات تتصدر الحكومة الاسرائيلية والاحتلال المسؤولية الأساسية، باعتبار ان ما يجري هو محاولة لخنق الاقتصاد الفلسطيني بشكل شامل بهدف اضعافه والدفع للتهجير، ومحاولة لتفكيك السلطة الوطنية وافقادها شرعيتها امام جمهورها.

وبدون استعراض المقترحات التي قدمها العديد من الخبراء والمؤسسات لتجاوز هذه المحنة، أشعر اننا امام مسؤولية أوسع بكثير من معالجة مشكلة راتب هذا الشهر او ذاك بالرغم من اهميتها لصمود الناس واستمرار تقديم الخدمات الحكومية. ان تكرار تعرض فلسطين عبر السنوات لمثل هذه الضغوط وبأشكال مختلفة يدفعنا للبحث عن حلول متوسطة المدى وذات طابع بنيوي اكثر، ليس بديلا عن المباشر ولكن اضافة له. وقد استند هذا الملخص الى تقرير البنك الدولي الصادر في حزيران من هذا العام حول مراجعة الانفاق العام للسلطة الفلسطيني، حيث ربما  نستطيع معا ان نرسم ملامح خطة اصلاحية متوسطة المدى بعد التعرف على الحقائق المهمة المتعلقة بالخدمة المدنية وخدمة قوى الأمن لدى السلطة الوطنية الفلسطينية.  

المعطيات الأساسية

تراجعت المساعدات الدولية لميزانية السلطة بشكل كبير في العقد الاخير من حوالي ٢ مليار دولار سنويا  الى ما يقارب ال ٤٠٠ مليون دولار ( من ٢٧٪؜ من الناتج المحلي عام ٢٠٠٨ الى ٢٪؜ منه عام ٢٠٢٣) . واستطاعت السلطة عبر حكوماتها المتتابعة ان ترفع وتحسن ايراداتها بشكل كبير ولكن دون ان تستطيع تغطية العجز السنوي المتراكم . ولذلك لجأت للاقتراض من مصادر محلية كالبنوك(2,88 بليون دولار في نهاية ٢٠٢٤)، وهيئة التقاعد (٣ بليون دولار) وموظفي السلطة (١،٤٧ بليون دولار)، والقطاع الخاص (١،٥ بليون دولار) بما أوصل الدين  العام في نهاية العام الماضي ليصبح  ١١،٨ بليون دولار اي ٨٥،٧٪؜ من الناتج المحلي الاجمالي..

وقامت السلطة بجمع  ايراداتها قبل الحرب بنسبة ٣٪؜ من غزه و ٩٧٪؜ من الضفة الغربية، بينما كان ٢٩٪؜ من انفاقها  على غزه منذ عام ٢٠٠٧

وبشكل مبدئي، فان  نسبة تحصيل الايرادات من اجمالي الناتج المحلي في فلسطين هو ضمن المستوى الاقليمي والدولي ، ويتراوح حول ٢٦٪؜ من الناتج المحلي الاجمالي ، بينما الايرادات الضريبية لوحدها تتراوح حول ٢٠،٣٪؜ ، وهي من أعلى نسب المنطقة. 

وكان معدل رواتب موظفي السلطة يتراوح حول ١٤٪؜ من الناتج المحلي بينما تتراوح معدلات دول المنطقة حول ١١٪؜ .وعند فحص اسباب ارتفاع فاتورة الرواتب  وجد ان معدلات الارتفاع سنويا هي ٣،٪؜ في الرواتب الأساسية ( بسبب ازدياد عدد الموظفين)، و ٢٪؜ في العلاوات والاضافات.وقد زاد عدد الموظفين على ملاك الخدمة المدنية وقوى الامن ووصل مع نهاية ٢٠٢٤ الى ١٥٥،٦١٤ موظفا من أصل ١٥٣،٥٧٤ موظفا ، بينما زادت قيمة الرواتب السنوية من ٦،٤ مليار شيكل عام ٢٠١١ الى ٨،٤ مليار عام ٢٠٢١.

وقد زادت حصة الضفة الغربية من ٥٧٪؜ من الموظفين عام ٢٠١١ الى ٧٢٪؜ عام ٢٠٢١  ووصلت في النهاية في العام ٢٠٢٤ الى ١١٦،٤٥٨ موظفا في الضفة ٧٥،٤٪؜ و ٣٩،١٥٦ موظفا في غزه٢٤،٦٪؜.

الا ان النقطة الأهم بقيت ان الزيادةالأهم في تكلفة الرواتب لم تكن هي زيادة عدد الموظفين ، بل الزيادة الهائلة المستمرة في العلاوات والاضافات على الراتب ، حيث معظم الموظفين العموميين يقبضون كل انواع العلاوات وهي غير مرتبطة بأداء مهني او دور وظيفي . وبالطبع لم تنعكس زيادة الرواتب على الاداء الحكومي حيث تراجع اداء فلسطين المقارن من المرتبة ٤٣/١٠٠ عام ٢٠١٠ الى ٢٩/١٠٠ عام ٢٠٢٠ في حين كان متوسط المنطقة ٤٢/١٠٠ . 
اما الايرادات المحليه فقد زادت من ٤،٣٪؜ من الناتج المحلي عام ٢٠١٥ الى ٦٪؜ عام ٢٠٢٢ بينما معدل المنطقة هو ٥،١٪؜، بالرغم من ان معدل ضريبة دخل على الشركات في فلسطين ( ١٥٪؜) وهو اقل من المعدل العالمي (٢٢،٦٪؜) . 

اما النفقات العامة ، فقد ارتفعت بين ٢٠١٥-٢٠٢٢ لتصل الى ٣٠،٤٪؜ من الناتج المحلي الاجمالي ، وهو اعلى من الاردن ومصر والمغرب ومتوسط المنطقة . وبالرغم من ان السلطة تعتبر ان نفقاتها هي اساس النمو ومواجهة الاجراءات الاسرائيلية ، الا ان هذه النفقات لم تستطع خلق نمو مستدام او خلق فرص عمل جديده. ، حيث نصف النفقات تذهب للرواتب بينما تراوحت الاستثمارات حول ٢٪؜ وهو اقل بكثير من اغلب دول العالم. ومع ان نفقات التعليم والصحة كانت حول المتوسط العالمي ، الا ان نفقات الامن  والحماية الاجتماعيه كانت أعلى بكثير. 

ومن بند الرواتب ، برز ان نفقات الرواتب في قطاع الأمن كانت ٣٧٪؜ وفي  التعليم ٣٣٪؜ وفي الصحة ١١٪؜. الا ان دراسة معمقه في هذه القطاعات الثلاث أبرزت ملاحظات اساسية ومنها : القطاع الصحي ؛ ثلث ميزانيته لتغطية التحويلات لمستشفيات خارج النظام الصحي ، وعدد الموظفين غير كاف مقارنة بالمنطقة ما عدا غزه ، اضافة لملاحظات اضافية . اما التعليم فما زال هناك نقص في رواتب المعلمين وهناك ضعف في النظام ما قبل المدرسي  بينما معدل  الانفاق مساو للمعدلات الدولية . 

ان من الواضح ان اساس الزيادة المضطردة في فاتورة الرواتب هي قانون الخدمة المدنية ٢٠٠٥ وقانون خدمة الأمن ٢٠٠٧ والقانون الدبلوماسي ٢٠٠٧، وان اية عملية اصلاح حقيقية يجب ان تتناول هذه القوانين بالمراجعة والفحص مع مرور عشرين عاما على صدورها وتطبيقها . والجدير بالذكر ان عدد الموظفين الدائمين من موظفي الخدمة المدنية يصل الى ٨٩٪؜ فقط، والباقين عمال مياومة ومكافآت وعمال شهريين وعمال طوارئ.

الخطوات المطلوبة

من المتوقع وصول فاتورة الرواتب في العام القادم الى ٨،٨ مليار شيكل وعدد الموظفين الى حدود ١٥٦٠٠٠ موظف. والمطلوب تخفيض الفاتورة الى رقم يتراوح حول ٧ مليار شيكل وعدد موظفين يتراوح حول ١٤٨٠٠٠ موظف. وهذا يتحقق ليس بالتقاعد المبكر لوحده ، مع انه مفيد بعض الشئ ، ولكن باجراءات صارمة لضبط العلاوات والزيادات السنوية ،  وتجميد مؤقت في زيادات الرواتب ، اضافة لمجموعة اخرى من الخطوات الابداعية التي يمكن ان تقترحها الوزارات المختلفة . ان الجهود المطلوب بذلها داخل عدد من الوزارات الرئيسية وكذلك المراجعة المعمقه للقوانين المتعلقه بالوظيفة العمومية والتأمين الصحي وأنظمة التقاعد وغيرها يمكن ان تقود لتخفيض حقيقي وضبط كبير للانفاق العام . 

ويبقى السؤال هل هذا هو الحل للأزمة المالية الحالية ..؟ بالطبع لأ ، ولكنها خطوات اصلاحية متوسطة المدى تمنع وقوعنا في هاوية سحيقة اذا استمرت الحكومة  في تسيير اعمالها بالدفع الذاتي.  

ان المطلوب فورا هو تشكيل مفوضية للاصلاح الحكومي تتحمل مسؤولية هذه المهمة الصعبة ، وتشارك فيها وتدعمها الرئاسة الفلسطينية وحركة فتح ومنظمة التحرير  لأهميتها. ويتم دعمها بشكل كامل ، لان هذه الخطوات الاصلاحية قد تستطيع المساهمة في انقاذ المركب الغارق .

ان تقرير البنك الدولي المذكور غني بالمعلومات وبالمقترحات ، وليس فيه وصفة جاهزه بالرغم من وجود خطة عمل قطاعية وعامة . لكنه ملئ بالمؤشرات والاهداف التي تستطيع اي ادارة حكومية ان تبدأ عنده . وهذا يحملنا نحن مسؤولية كبيره لقيادة هذه العملية الاصلاحية بدل ان نكتفي بالمناشده والمطالبة من المجتمع الدولي . فهل من مجيب !؟!.