فلنفكر داخل الصندوق... قبل خارجه.

كثيرًا ما نلهث وراء كسر الصندوق / "الخروج من الصندوق" متخيّلين أن الحلّ في التمرّد على الشكل بوصفه قفزة نحو الإبداع، لا في مراجعة المضمون، لكنّ الصندوق ليس قيدًا دائمًا، بل إطارًا قابلًا لإعادة التشكيل، فقبل أن نهدمه، علينا أن نعيد ترتيب الداخل: أفكارنا، سلوكياتنا، تصوّراتنا عن الذات، وعن الآخر.

في السياق الفلسطيني، الصندوق ليس مجرّد استعارة، بل واقع معقّد مركّب، من السياسة، والسلوك، والهوية، والتاريخ، والضغوط. محاصر جغرافيًا، محكوم بخطاب عالمي نمطي، ومنكفئ أحيانًا على سرديات متكررة لا تحرّك ساكنًا، فهل نعرف حقًا من نحن؟ كيف نريد أن يرانا الآخرون؟ ما الصورة التي نرغب في تمثيلها؟ وما السلوكيات التي ورثناها تحت الضغط، وما الذي علينا أن نتحرّر منها لنُعيد تعريف أنفسنا؟ وصولًا إلى بناء صندوق جديد يمثلنا: نعيد من خلاله تعريف زوايانا

ترتيب الداخل – سؤال الذات قبل مواجهة العالم.

قبل أن نواجه الرواية الإسرائيلية في المحافل الدولية، أو نكسر سطوة الفيتو، أو نطالب العالم بتغيير نظرته، علينا أن نسأل أنفسنا:

من نحن حقًا؟
ما جوهر هويتنا تحت كل هذا الركام؟
كيف نتصرف في يومياتنا، تحت الضغط، في ظل الانقسام، في ظل الأزمات؟
ما الذي نريد أن نتمسك به من القيم، وما الذي يجب أن نتخلص منه كسلوك؟
ترتيب الداخل لا يعني الانطواء، بل التأسيس لرؤية واضحة عن الذات، تشكّل قاعدة الانطلاق نحو الخارج.

زاوية الرؤية – أي صورة نريد أن نُرى بها؟.

لسنوات، بدا الخطاب الفلسطيني إما أسيرًا للمظلومية أو مشتتًا بين الأولويات. لكن هل العالم يرى حقيقتاً من نحن، بل كيف نُظهر أنفسنا، فالصورة ليست فقط نتاج الحقيقة، بل نتاج ما نرويه، وكيف نتصرف، وكيف نُؤطر أنفسنا.

من هنا تأتي ضرورة تغيير زاوية النظر: لا نكتفي بأن نُفهم، بل أن نكون مفهومين ضمن أطر واضحة نُنتجها نحن، لا يُفرضها الآخر علينا.

بناء الصندوق الجديد.

"الصندوق" الذي نطمح إليه ليس قالبًا يُحدّ من حريتنا، بل إطارًا نعيد عبره تنظيم علاقتنا بأنفسنا وبالعالم.

فبدلاً من الهروب من "الصندوق القديم"، نبني صندوقًا جديدًا يمثلنا نحن، كأفراد وجماعات، كهوية وصوت، كمجتمع يسعى لتجديد أدواته لا التنازل عن قضاياه.

فالخروج من الصندوق ليس تمرّدًا لحظيًا، بل عملية تحول تتطلّب تمهيدًا داخليًا، أن نعيد اكتشاف جوهرنا، أن نصوغ رؤيتنا لأنفسنا، وأن نوزّع أدوارنا وأن نعرف وجهتنا، فالصندوق الجديد لكي يكسر يجب أن يبنى أولاً، يُؤسَّس، يُؤطَّر برؤيتنا نحن، لا برؤية الآخر.

وجوه الصندوق – ثماني زوايا للتمثيل والتحول.

لن يكون لهذا الصندوق وجهٌ واحد، بل وجوهٌ متعددة، تعكس تنوّعنا وقوة خطابنا، كل وجه يمثل زاوية من زوايا شخصيتنا الجمعية:

وجه يعكس ذاكرتنا الجمعية، يمثل تاريخنا، نكبتنا، نضالاتنا، وأحلامنا المتوارثة.
وجهٌ لخطابنا السياسي، ماذا نقول للعالم؟ بلغة من؟ وما أدواتنا في التأثير؟
وجه لسلوكنا اليومي، كيف نعيش فلسطينيتنا؟ كيف نُجسّد القيم في الواقع؟
وجه لاقتصادنا المقاوم، كيف نُنتج بدائل؟ كيف نحمي موردنا ونُعيد تعريف التنمية؟
وجه لعدالتنا الاجتماعية، هل ننتصر للفئات المهمشة؟ كيف نُعيد بناء العقد الاجتماعي؟
وجه لهويتنا الثقافية، كيف نحكي حكايتنا؟ بأي لهجة؟ وأي سردية؟
وجه لتحالفاتنا الخارجية، من هم شركاؤنا الحقيقيون؟ وعلى ماذا تُبنى الشراكات؟
ما الذي نتركه للأجيال القادمة؟ رؤية أم رماد؟
في الصندوق الجديد، لكل وجهٍ من الوجوه الثمانية دورٌ ومعنى

من إعادة البناء إلى امتلاك الزاوية.

حين نُدرك وجوهنا المتعددة، ونُعيد ترتيب داخلنا، ونبني الصندوق الذي يعكسنا، نكون قد انتقلنا من ردة الفعل إلى الفعل، من الدفاع إلى المبادرة. حينها فقط، يمكننا تغيير الزاوية التي يُنظر بها إلينا، لا عبر التوسّل أو الاستجداء، بل عبر الحضور الواضح، والموقف الثابت، والهوية المركّبة والمتماسكة.

صندوقنا... نحن من نصنعه.

صندوقنا ليس قيدًا إذا صنعناه بوعينا، وزواياه ليست زوايا حادة إذا ملأناها بمضامين إنسانية، سياسية، وأخلاقية.

أن نُبادر لبنائه، يعني أن نكون فاعلين. إنه ليس فقط "صندوقًا" بل مشروع وطني لبناء ذاتي وجماعي، يُعيد تشكيل الفلسطيني لا بوصفه ضحية فقط، بل فاعلًا، مبادرًا، خالقًا لصورة جديدة عن نفسه في الداخل، وقادرًا على تغيير الزاوية التي يُنظر بها إليه في الخارج.