من المفارقات المريرة أن يوصي مجرم الحرب، بنيامين نتنياهو، المطلوب للعدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بدونالد ترامب للحصول على جائزة نوبل للسلام، والأنكى من ذلك أن تكون تلك التوصية هي المكافأة التي يقدمها نتنياهو لسيده في البيت الأبيض على تحرير مئات الأطنان من القنابل التي ألقتها الطائرات الإسرائيلية، أميركية الصنع أيضًا، على رؤوس أطفال ورجال ونساء غزة وشيوخها في حرب الإبادة التي حصدت حتى الآن أرواح 100 ألف فلسطيني وجرحت مئات الآلاف وشردت الملايين، بعد أن هدمت 80% من عمران قطاع غزة.
ترامب، بنظرنا، هو ليس راعي حرب الإبادة والحروب الأخرى التي خلّفتها في المنطقة فحسب، بل هو مصمم ومشرعن فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة تحت وابل قنابل الحرب التدميرية الإسرائيلية، وإقامة "ريفييرا غزة" على أنقاض وجودهم، وإن كان مشروعه قد تأخر أو تعثّر بفضل الصمود الأسطوري لأهالي القطاع، فذلك لا يعني نهاية المطاف. وقد جاء تحويل السؤال حول هذا الموضوع إلى نتنياهو خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد على هامش مأدبة العشاء التي أقامها له ترامب على شرف زيارته الثالثة لواشنطن، إشارةً منه بإيكال الموضوع لأصحابه ذوي الشأن، فيما جاء جواب نتنياهو بالقول إنه يعمل مع الولايات المتحدة لإيجاد دول مستعدة لاستيعاب الغزيين المغادرين، وإنهم يقتربون من إيجاد عدة دول مستعدة لاستيعابهم، واصفًا خطة ترامب بأنها "خيار حر".
صحيفة "هآرتس" اعتبرت جواب نتنياهو سالف الذكر بمثابة استخفاف بذكاء العالم، في وقت يعمل فيه مع وزير دفاعه يسرائيل كاتس، على إقامة ما يسمونها تعسفًا "مدينة إنسانية"، هي عمليًا "مدينة خيام" سيتم فيها حشر مئات آلاف الفلسطينيين على أنقاض مدينة رفح المهدّمة. وتشير الصحيفة، استنادًا إلى مصادر سياسية إسرائيلية، إلى أن هدف الخطوة هو تركيز غالبية سكان القطاع في مدينة مغلقة، يتم سريان المساعدات الغذائية إليها، ويُجرى من خلالها تشجيع "الهجرة الطوعية"، فيما يحدث كل ذلك بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية.
وتقول الصحيفة إن ذلك ليس حلًا إنسانيًا بل "ترانسفير"، خاصة عندما يجري الحديث عن سكان يقعون تحت القصف ويعانون من انقطاع المياه والكهرباء والدواء والتجويع منذ عشرين شهرًا، والحديث عن نقل سكان مدنيين بالقوة، وهي عملية ممنوعة حسب القانون الدولي وتُعتبر جريمة حرب.
وليس تشدد إسرائيل في موقفها الرافض للانسحاب من محور "موراغ" الذي يفصل مدينة رفح عن سائر أراضي قطاع غزة، إلا تأكيدًا على تمسكها بتنفيذ هذا المخطط، الذي يهدف إلى حشر سكان القطاع في المنطقة الواقعة بين محور فيلادلفيا ومحور موراغ، تمهيدًا لتنفيذ مخطط التهجير الذي صاغه ترامب.
وفي وقت يتحوّل القتل في قطاع غزة من هواية إلى إدمان، بتعبير إحدى الكاتبات الإسرائيليات، تتزايد الأصوات التي تصف "مدينة الخيام" في رفح بـ معسكر التركيز النازي والجيتو اليهودي، حيث اضطر محرر الشؤون الخارجية في قناة 12 الإسرائيلية إلى الاعتذار، بعد أن شبّه ما وصفها بمدينة الخيام الأكبر في العالم التي تقيمها إسرائيل على أنقاض مدينة رفح، بمعسكر التركيز النازي، قائلًا: عندما يركّزون أناسًا في معسكر خيام على أنقاض ركام ويوفرون لهم الطعام، فهذا "معسكر تركيز" ليس إلا.
الكابينيت الإسرائيلي، الذي صادق بالإجماع على المخطط قبل سفر نتنياهو إلى واشنطن، قمع محاولات قائد أركان الجيش إيال زمير المتحفّظة، حيث نقلت وسائل الإعلام ما قاله له نتنياهو، بأنه سيُخرج عشر جرافات "دي9" لإعداد وتحضير الأرضية، بغية إقامة مدينة الخيام المذكورة، في إشارة إلى حسم النقاش حول الموضوع.
وتحت عنوان "دولة اليهود تقيم جيتو"، شخص غدعون ليفي المرحلة الحالية من الحرب على غزة بأنها المرحلة الأخيرة قبل "الجينوسايد"، مشيرًا في هذا السياق إلى ما قامت به ألمانيا من نقل اليهود شرقًا، وإلى طرد الأرمن قبل المذبحة التي نُفذت ضدهم أيضًا، عندها أيضًا سموه "إخلاء"، والآن يتحدثون عن إخلاء جنوب قطاع غزة.
ليفي يقول: إنه إذا كانت لا تكفي الـ 21 شهرًا الأخيرة، الأطفال، النساء، الصحافيين، الأطباء، وغيرهم من الأبرياء، فإن فكرة "الجيتو" قد أشعلت كل أضواء الخطر، إذ إن إسرائيل تتصرّف كمن يخطّط لـ"جينوسايد" و"ترانسفير"، وحتى لو لم تخطط، فإن من شأنها الانزلاق لذلك سريعًا.
عندها ربما سيحصل ترامب على جائزة نوبل للسلام، ويُتوَّج نتنياهو وريثًا لبن غوريون، ويُجري تخليده في الذاكرة الإسرائيلية كمن أكمل سياسة التطهير العرقي التي بدأها مؤسس الدولة اليهودية عام 48، وتخلّص من مليوني فلسطيني آخر.