ما زال محللون سياسيون واستراتيجيون تدعمهم مراكز أبحاث أجنبية وعربية وفضائيات مستحدثة ناطقة بالعربية تابعة لدول مستحدثة يكررون القول إن نتنياهو قام بالحرب ويستمر بها حتى يحافظ على الائتلاف الحكومي و يهرب من متابعته قضائياً بتهم الفساد.

وهذه المقاربة السياسية التي تُحمل نتنياهو المسؤولية عن الحرب وتداعياتها يمكن وصفها على أقل تقدير بأنها قاصرة وغير ملمة بحقيقة المشروع الصهيوني و التحولات في المجتمع الصهيوني وفي النظام الدولي وطبيعة العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، كما أنها تتعامل مع نتنياهو كأي زعيم عربي يضع مصلحته الشخصية فوق مصلحة بلاده.

ما يقوم به نتنياهو من مجازر في قطاع غزة غير منفصل عما يجري في الضفة من توسيع متسارع للاستيطان وهدم البيوت وقتل المواطنين والاعتقالات والتضييق على السلطة الفلسطينية والرفض الصريح لقيام دولة فلسطينية كما يرفض الالتزام بقرارات الشرعية الدولية ، وكل ذلك لا ينفصل عما تخطط له إسرائيل وواشنطن من ترتيبات في المنطقة كالتطبيع واستباحة سوريا والعدوان على إيران ولبنان، وكلها تندرج في سياق مخطط كبير للشرق الأوسط، وليس مجرد سياسة فردية لمصالح شخصية لنتنياهو .

لو كان الأمر يتعلق فقط بسعي نتنياهو للحفاظ على السلطة والتهرب من المحاكمة، فلماذا يقف إلى جانبه الجيش ويلتف حوله غالبية الإسرائيليين حتى قوى المعارضة؟ ولماذا تساند واشنطن وغالبية الأنظمة الأوروبية الديمقراطية رئيساً فاسداً بل ويعمل ترامب على إسقاط تهم الفساد الموجهة له؟ 

هؤلاء المحللون والمنابر الإعلامية، بقصد أو دون قصد، يخفون حقيقة ما يجرى ويختزلون الموضوع بنتنياهو وبالتالي يبرئون إسرائيل والحركة الصهيونية وأمريكا من المسؤولية عما يجري، كما يدافعون ويبررون صمت الأنظمة العربية والإسلامية وتواطؤ بعضها،
وكأنه باختفاء نتنياهو عن المشهد ستعود إسرائيل دولة ديمقراطية محبة للسلام وتعود واشنطن صديقة للعرب.

صحيح أن نتنياهو يريد تبييض صفحته وتحرير المخطتفين والظهور بمظهر البطل القومي لليهود ولكنه يشتغل بالتنسيق مع الحركة الصهيونية العالمية على مخطط استراتيجي كبير لإنقاذ الدولة من خطر وجودي يهددها من جانبين:

الأول وجود غالبية فلسطينية ما بين البحر والنهر حيث لم تستطع كل حروب إسرائيل وأعمال القتل والاعتقال والتضييق على حياة الفلسطينيين والهجرات اليهودية من كل دول العالم تغيير المعادلة الديمغرافية، الأمر الذي أدى إلى فشل مخطط الدولة اليهودية الخالصة.

الثاني: وجود شعوب عربية وحركات مقاومة وممانعة في فلسطين والإقليم ما زالت ترفض وجود دولة إسرائيل وتعرقل مشروع الشرق الأوسط الجديد.

لذلك كان الأمر يحتاج لحرب كبيرة، ووجد في اليمين الصهيوني وفي تعاليم التوراة والأسس التي قام عليها المشروع الصهيوني ضالته ،وهو مقتنع إنه ينفذ مشيئة الرب!

قبل الحرب كانت إسرائيل تعيش أزمة وجود بالفعل بالرغم من قوتها العسكرية وتحالفاتها الدولية وتطورها العلمي والتكنولوجي، ولكنها كانت تعيش أزمة وجودية لا تقل عن أزمة قيام دولة فلسطينية، وجاء الطوفان الحمساوي وكان ما كان.