في لحظة تاريخية استثنائية، وفي خضمّ المذبحة المتواصلة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني، عُقد، قبل أسبوعين، في العاصمة النمساوية فيينا مؤتمرا لمناهضة الصهيونية (المؤتمر الأول الذي انبثقت عنه المنظمة الصهيونية العالمية انعقد في العام 1897 في بازل بسويسرا)، بمبادرة من مثقفين ونشطاء يهود. عنوانه الجريء والمثير أثار منذ البداية نقاشًا داخل الأوساط الفلسطينية: هل من المجدي المشاركة في مؤتمر ينظمه يهود مناهضون للصهيونية؟ ألا يُفترض أن تكون مناهضة الصهيونية مسؤولية يهودية أخلاقية بالدرجة الأولى، تمامًا كما هي مسؤولية فلسطينية وجودية؟ وهل من الأفضل ترك المنصة لهؤلاء اليهود كي يعبّروا بأنفسهم عن رفضهم للمنظومة الصهيونية، بهدف التأثير في المجتمعات الغربية المتواطئة مع نظام الإبادة الصهيوني، والتي تخلط عمدًا بين العداء للسامية والنقد المشروع لإسرائيل؟

بعض الأصوات الفلسطينية عبّرت، وإن بتحفّظ، عن خشيتها من أن تتحوّل هذه المبادرات إلى محاولة "احتواء" أو مصادرة صوت الفلسطينيين أنفسهم في ساحة التضامن العالمي. لكن ما لبث هذا التردد أن تراجع، بعدما تبيّن الطابع التحرري للمؤتمر وجرأته في مواجهة السرديات الغربية الرسمية.

شاركتُ إلى جانب الدكتورة غادة الكرمي، الناشطة والكاتبة المعروفة في بريطانيا، والدكتور رمزي بارود، الكاتب والمحرر الفلسطيني المقيم في الولايات المتحدة، في هذا المؤتمر الذي امتد لثلاثة أيام (11–13 حزيران/ يونيو 2025)، وضمّ مداخلات هامة من مثقفين ومفكرين يهود من مختلف أنحاء العالم. وقد سبق المؤتمر اجتماع تحضيري عبر تطبيق زوم، حيث جرى الاتفاق على توسيع إطار المؤتمر ليكون منصة عالمية تسعى لبناء جبهة إنسانية مناهضة للصهيونية وكل أشكال القمع: من الاستعمار والاستغلال، إلى النيوليبرالية والعنصرية والإمبريالية.

رمزية فيينا وعبء التاريخ

لم يكن اختيار فيينا، حيث عاش ثيودور هرتسل، مؤسس الصهيونية السياسية، مصادفة. فالرمزية هنا عميقة، إذ ينعقد هذا المؤتمر لمناهضة المشروع الذي بدأ في هذه المدينة قبل أكثر من قرن، وفي نفس المدينة التي باتت شاهدة اليوم على تشكّل وعي جديد، يهودي وعالمي، ضد فظائع هذا المشروع.

لقد شارك أكثر من 400 يهودي، من مختلف الأجيال والتوجهات والمهن، في هذا المؤتمر، رغم القيود والضغوط، كما شارك العشرات من غير اليهود. وكما روى المنظمون، فقد رفضت معظم القاعات في فيينا استضافة المؤتمر، ما اضطر المنظمين إلى قبوله في قاعة أفراح يمتلكها مواطنون من أصل تركي، قدموها مجانًا متحدّين حملات الترهيب.

جذور حركة مناهضة الصهيونية اليهودية

ما يجب تذكّره هو أن مناهضة الصهيونية لم تكن يومًا حكرًا على الفلسطينيين أو العرب. بل إنها نشأت جنبًا إلى جنب مع الحركة الصهيونية ذاتها. ففي العام 1897، حين نظّم هرتسل أول مؤتمر صهيوني، كانت حركة "البوند" الاشتراكية اليهودية في أوروبا الشرقية تقود جبهة مناهضة شعبية للصهيونية، داعية إلى اندماج اليهود في مجتمعاتهم الوطنية، لا إلى إقامة كيان استيطاني في أرضٍ أخرى.

وتُظهر الدراسات التاريخية أن الأغلبية الساحقة من يهود أوروبا الشرقية – حتى الثلاثينيات – لم تكن صهيونية، بل اعتبرت الصهيونية حركة رجعية، أو حتى كفرًا كما رأى اليهود الأرثوذكس، وأن مئات الآلاف من اليهود الذين هاجروا من أوروبا لم يتجهوا نحو فلسطين، بل إلى الأميركيتين وبريطانيا وجنوب أفريقيا. وأن اليهود الذين قضوا في المحرقة النازية كانوا بمعظمهم غير صهيونيين. بل إن الغرب، بعد الحرب، رفض استقبال الناجين، ودفعهم قسرًا إلى فلسطين، لأنه أراد إسرائيل أن تكون مشروعًا وظيفيًا ضمن التوسع الإمبريالي الغربي.

ما بعد غزة: لحظة الانكشاف

لم يكن هذا المؤتمر ليُعقد، لولا الوحشية غير المسبوقة التي تمارسها إسرائيل في غزة، والتطهير العرقي في الضفة الغربية. هذه المذبحة، التي أحرجت حتى أنصار إسرائيل التقليديين في الغرب، أيقظت ضمائر كثير من اليهود. وبرزت في هذا السياق أصوات من أبناء وأحفاد الناجين من الهولوكوست، رافضةً لهذا المشروع الاستعماري باسم الأخلاق والتاريخ. لقد انكشفت الصهيونية أمام جيل جديد من اليهود، ليس فقط كحركة استعمارية، بل كمشروع تهديد وجودي للقيم الإنسانية، ولليهود أنفسهم.

نحو جبهة تحررية كونية

أكد المؤتمرون أن معركتهم لا تقتصر على مناهضة الصهيونية فحسب، بل تتّسع لتشمل الحكومات الغربية المتواطئة معها، والنخب التي تدعم هذا النظام الكولونيالي في فلسطين. واستعاد المشاركون نموذج التعايش اليهودي – الإسلامي في الأندلس، وتجربة العيش المشترك في الدول العربية، كمصدر إلهام لرؤية ما بعد الصهيونية: كيان ديمقراطي عادل لجميع سكانه، من البحر إلى النهر.

وقد شدد البيان الختامي على ضرورة بناء حركة سياسية دولية مناهضة للصهيونية، وتحرير الفلسطينيين واليهود من هذا المشروع، وتحدي الروايات الرسمية المفروضة في الغرب. كما دعا إلى تشجيع المترددين من اليهود وغير اليهود، ممن تردعهم حملات القمع والرقابة، على الانخراط في هذا النضال الإنساني.

الطريق طويل… لكن لا عودة إلى الوراء

رغم التحديات، فإن ما شهده مؤتمر فيينا ليس حدثًا عابرًا، بل محطة تأسيسية في تحوّل أعمق يشهده الرأي العام العالمي. إن تراجع هيبة الصهيونية في الغرب، وتآكل مكانة إسرائيل بصورة غير مسبوقة، وتشكّل حركة تحرر كونية تقاوم الظلم المنظّم – سواء في فلسطين أو في بقاع أخرى – كل ذلك يمثّل فرصة تاريخية، رغم كل الآلام.

لقد بات واضحًا أنه لم يعد بالإمكان "تبييض" الصهيونية أو تبرئتها من جرائمها. وستصبح، ومعها إسرائيل، عبئًا أخلاقيًا على البشرية. وهذا التطور قد يعوّض حاليًّا، جزئيًّا، عن غياب أو ضعف الأصوات المناهضة للصهيونية داخل إسرائيل، والتي اختارت الصمت أو الانكفاء تحت وطأة القمع وحملات التخوين. أما الحركة المناهضة للصهيونية التي تتشكّل اليوم، فهي تسير في طريق طويل وشاق، لكنها انطلقت ولن تتراجع، وهي تحمل وعدًا بمستقبل إنساني حرّ وعادل، لفلسطين والعالم.