في ورقة بحثية أعدّها مؤخرًا كل من د. إمطانس شحادة وريموندا منصور، نشرها مركز مدى الكرمل باللغتين العربية والإنجليزية بعنوان "ترسيخ وتوسيع الملاحقة السياسية للفلسطينيين في إسرائيل"، رصد فيها الباحثان سلسلة من الممارسات الأمنية التي طاولت المواطنين العرب في ظل حرب الإبادة على غزة وقبلها، في موجزٍ لسياسة الانتهاك التي بات القانون فيها أكثر تصالحًا مع النزعة الأمنية اليمينية تجاه المواطنين العرب، خصوصًا في ظل الحكومة الحالية.
تُبيّن الورقة سوابق قانونية صارت تشرعن الانتهاك، منها إعفاء المدعي العام الشرطة من التزام هذه الأخيرة بالحصول على موافقة مسبقة منه قبل شروعها في التحقيق أو الاعتقال بشبهة ارتكاب جرائم التحريض على "الإرهاب" أو التماهي مع "منظمة إرهابية". كما منحت النيابة العامة الإسرائيلية الإذن للشرطة بتقديم طلبات تمديد اعتقالات من المحاكم حتى انتهاء التحقيقات، مما مثّل استثناءً سهّل على الشرطة اعتقال المئات من المواطنين العرب في السنتين الأخيرتين.
طاولت حملة الاعتقالات وكمّ الأفواه أطباء ومحامين وكذلك قضاة عرب، الذين اعتبرهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، في تغريدة له على منصة "إكس"، بأنهم "أعداء من الداخل". كما لوحق واعتُقل سياسيون وأساتذة وطلاب جامعات، ورجال دين وفنانون وعمال وموظفون في قطاع الخدمات، لمجرد تعبيرهم عن رأيهم في رفض الحرب على غزة، وكان آخرها تصويت لجنة الكنيست على إبعاد النائب عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، أيمن عودة، من الكنيست.
والأخطر من كل ما سبق، تفعيل وزير الأمن الإسرائيلي، في ظل الحرب الدائرة على غزة، لأوامر الاعتقال الإداري التي طاولت العشرات من المواطنين العرب في الداخل، إذ لم يسبق، منذ انتهاء ما يُعرف بالحكم العسكري الذي أُخضع له المواطنون العرب في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أن جرى اعتقال هذا العدد من المواطنين العرب إداريًا. فبناءً على بيانات جمعها موقع عرب 48، وأشارت لها ورقة مدى الكرمل، تم حتى مطلع نيسان/أبريل 2024 توثيق اعتقال نحو 25 مواطنًا عربيًّا، تراوحت مدد اعتقالهم بين شهر واحد وستة شهور، وذلك بالتزامن مع مصادقة الكنيست في تموز/يوليو 2024، بالقراءة التمهيدية، على قانون صلاحيات الطوارئ وتفعيله بما يُسوّغ لوزير الأمن الإسرائيلي اعتقال مواطن إسرائيلي إذا ما اشتبه به هذا الأخير – بالنسبة لوزير الأمن – بأنه عضو في "منظمة إرهابية" أو يشكّل "مصدر تهديد" لأمن الدولة، الأمر الذي وفّر غطاءً لأرعن محرض ومضطرب أمنيًّا مثل بن غفير لإصدار عشرات أوامر الاعتقال الإداري تحت طائل شبهات أمنية واهية.
لدى الرومان قديمًا نظامٌ كان يُعرف باسم "الإيوستيتيوم" (Iustitium)، يُفعّله الأباطرة في حالات الطوارئ مثل الحروب والكوارث والأوبئة وحتى في الحروب الأهلية. اعتُبر الإيوستيتيوم بمثابة استثناء، لأنه يعني حرفيًّا "تعليق القانون"، من حيث إن الإيوستيتيوم مشتق لغويًّا من الكلمة solstitium والتي تعني "توقف الشمس عن الدوران".
كان ذلك النظام يُعتبر استثناءً لأنه نقيضٌ للقانون، الذي يعني تعليق هذا الأخير وتوقفه برمّته نتيجة حالة اضطراب طرأت على الدولة وأحوالها. غير أن "الاستثناء" الإسرائيلي الحالي، المتمثل في سوابق بما تتضمنه من سياسات ملاحقة وترهيب، من قبل الحكومة الحالية، والتي لم يألفها المواطنون العرب في الداخل تجاههم منذ عقود، ليست مردّها إلى أن الدولة تمرّ في حالة اضطراب طارئ، بل لأن الدولة العبرية ذاتها مضطربة في ظل بنيتها الصهيونية وتعريفها لنفسها بوصفها دولة يهودية أو لليهود حصريًّا. بالتالي، ليست الإجراءات المتخذة ضد المواطنين العرب استثناءً يُناقض القاعدة القانونية أو يشذّ عنها، إنما هو استثناءٌ يُثبت القاعدة ويدلّ عليها، أتاحت الظروف لهذا الاستثناء الخروج إلى النور مجددًا. ومن هنا اعتبارنا لإجراء الاعتقال الإداري بحق مواطنين عرب بمثابة عودة، أي العودة إلى ما سبق أن كان... فالحكم العسكري، الذي أُخضع له عرب الداخل في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ما يزال ثاويًا في ذاكرة أهلنا إلى يومنا هذا.
كان المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين قد نبّه، في كتابه حالة الاستثناء، إلى تلك العلاقة التي تربط القانون بالاستثناء، وإمكانية تقنين أو قوننة هذا الأخير، في محاولة لاستباحة حياة فئة معينة من المجتمع. ويقصد بها أغامبين فئة المهاجرين في الدول المحسوبة على المنظومة الليبرالية في الغرب، بما يجعل حياة هؤلاء "عارية" كما يصفها أغامبين، لأن المستثنى من القاعدة القانونية هو ذلك المنبوذ أو الإنسان المستباح (Homo sacer) الذي يعني الرجل الملعون، أو المنفي، أو المُجرّد من مواطنيته، مما يشرعن استباحته إلى حدّ قتله دون عقاب، بحسب التعريف القانوني – الروماني القديم.
وقد أشار أغامبين في كتابه إلى معتقل غوانتنامو الأميركي والممارسات الوحشية فيه، مثالًا على ما اعتبره القانون الأميركي استثناءً تجاه بعض المهاجرين والمسلمين على أثر أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001.
غير أن ما تناوله أغامبين عمّا يسميه "الاستثناء"، الذي يجعل حياة فئة من الناس عارية يُستباح فيها الفرد بمسوغ قانوني، هو من صنيعة نظم ديمقراطية في دول وطنية حديثة. بينما الاستثناء في حالة إسرائيل ليس كذلك، لأن هذه الأخيرة كولونيالية في أصل تكوينها. بالتالي، ليست ممارسات أجهزتها الأمنية في تعسّفها تجاه المواطنين العرب استثناءً على هامش قانونها، بل لأن المواطنين العرب – بنظرها – هم الاستثناء في دولة يهودية تداوم على استثنائهم من مواطنتها الكاملة، باعتبارهم مُتَّهَمين في "لا يهوديتهم" و"أعداء محتملين".
لم يعد الوعي الحقوقي، في خطابه لدى المواطنين العرب في الداخل، على أهميته وضرورته، كافيًا وحده للإجابة على سؤال المرحلة وشكل حكومات دولة إسرائيل فيها. لأن المستهدف ليس فقط سقف الحريات التي ناضل العرب من أجلها على مدار عقود مضت، حيث تثابر الحكومة الحالية على استغلال حالة الحرب على غزة من أجل خفض هذا السقف، إنما الوجود العربي هو ما بات مستهدفًا في الدولة. ونقصد بالوجود هنا، الوجود بمعناه السياسي، وليس الديمغرافي – وإن كان هذا الأخير قد يكون محلّ، وعلى محكّ، سؤالٍ مستقبلي. بينما وجودنا، بمعناه السياسي والمهدّد، هو ذلك المتصل بكينونتنا وتكويننا التاريخيين، اللذَين منَحا صفة رسمية – سياسية في وجه الدولة العبرية، بوصفنا أهل البلاد وأصحاب الأرض.
ومن هنا، فإن كل الإجراءات المعمول بها اشتغالًا ضد المواطنين العرب، من قبل اليمين الإسرائيلي بنسخته الفاشية الحالية، تهدف إلى خنق كل ممكن سياسي له صفة عربية – رسمية. إن الوعي الوجودي ليس أولويةً على الحقوقي في المرحلة الراهنة، بقدر ما أن الثاني امتدادٌ للأول، فالمثابرة من أجل الحفاظ على ما أُنجز من حقوق وحريات جرى انتزاعها ضمن مسار نضالي طويل، يُمثّل بذاته وعيًا وجوديًّا لشكل وجوهر وجودنا السياسي في بلادنا وعلى أرضنا.
غير أن الوعي الوجودي لا يقف على قدمٍ واحدة، إنما اثنتين: فالأولى، هي تلك المتصلة بشكل علاقتنا بالدولة التي يُفترض بأننا مواطنون فيها، وفي ظلها يشتغل سؤالنا الحقوقي. بينما الثانية، هي تلك المتعلّقة بجوهر علاقتنا ببعضنا كعرب، وكجماعة سياسية، أو أبناء سردية موحّدة متولدة عن واقع سياسي – تاريخي جامع لذاكرتنا على الأقل، مُهدَّد وجودنا جميعًا على اختلاف مشاربنا ومذاهبنا السياسية والفكرية.
والاختلاف لا يجب أن يمنعنا من مداومتنا على تعريف أنفسنا كجماعة سياسية، لا كجماعات وشائجية وأوساط طائفية، كما تريد لنا الدولة العبرية أن نكون، باعتبارها إيّانا "غير اليهود".
إن الأمن المجتمعي، بما نعنيه من سِلم أهلي، وقد غدا هذا الأخير أقلّ مناعةً مما كان عليه سابقًا، هو ما يجعل وجودنا كعرب محلَّ سؤال، مما صار يستوجب ويستدعي وعيًا فيه للإجابة عليه.