لم تغيّر حرب الإبادة على قطاع غزة من سلوك القيادة السياسية، البرلمانية تحديدًا، للمواطنين العرب في إسرائيل، بل بلغت حدًّا من الرداءة تجاوز التهريج الذي اعتدنا عليه طيلة عقدين، لكن هذا السلوك الضعيف والمتردي يدق ناقوس الخطر الحقيقي بأن مصير المواطنين العرب والأجيال القادمة صار في مهبّ الريح وبلا أفق، في ظل انعدام أي رؤية سياسية حقيقية وجديّة، فيما إسرائيل ذاهبة إلى حسم ملف المواطنين العرب فيها كجزء من حسم الصراع مع الفلسطينيين عمومًا، عبر الإخضاع، وربما هذا هو المصطلح الأبرز في السياسات الإسرائيلية عمومًا: الإخضاع كشكل من أشكال الإبادة المجتمعية والثقافية، الذي يتمثل اليوم بأمثال منصور عباس، وهو حصيلة عملية تشويه سياسي وأخلاقي ووطني، تصل بالإنسان إلى أن يصرّ على أن يكون عبدًا عند السيّد، والسيّد يرفضه، لكنه يصرّ ويُلِحّ ويُلِحّ ويُلِحّ على أن يكون عبدًا، والسيّد يصرّ على رفضه.

وحسم ملف المواطنين العرب ليس حديثًا أو مستجدًا بعد السابع من أكتوبر 2023، بل منذ قيامها، لكنه أخذ مستوى آخر بعد أكتوبر 2000، أي بعد الانتفاضة الثانية، والذي ركّز على مستويين: الأول، تصفية القيادة العربية الوطنية سياسيًا وخلق قيادات جديدة، وعيها وثقافتها السياسية لا تتجاوز عقلية الوسيط، أي السمسرة؛ والثاني، خنق البلدات العربية جغرافيًّا بحيث تتحوّل إلى قنبلة موقوتة داخلية اجتماعيًا تتخذ شكل الجريمة، مع الإيهام بسياسات نيوليبرالية اقتصادية ترفع من مستوى المعيشة ظاهريًّا، لكنها تستهدف أساسًا تدمير البُنى الاجتماعية للمجتمع، سواء على مستوى الأسرة أو العائلة الموسّعة أو الحمولة، بحيث تُضرب الثقة الداخلية المتبادلة، أي التضامن والتكافل الداخلي، لتصبح هذه البلدات مثل الغاب، بلا بنى اجتماعية أو ثقة داخلية أو أخلاق أو أعراف، ويصبح الخيار هو الملاذ الفردي، الذي يتقمّص شكل الفردانية والتقدّم الاقتصادي والاجتماعي والهجرة، لكنه يقف على ساقَي دجاجة، هشّ وأجوف وبلا مستقبل مُشرِق، بل قابل للانفجار في أي لحظة.

إذن، تسعى إسرائيل لحسم ملف الداخل – المواطنين العرب، بتصفية القيادة الوطنية سياسيًّا، وتدمير المجتمع عبر الظواهر التي نعيشها يوميًّا، مثل الجريمة، ومظاهر الاستهلاك والتقدّم الاقتصادي المُزيّف، الذي يُوازيه تخلّف اجتماعي تخفيه معطيات مثل ارتفاع نسبة الأكاديميين، لكن المعطى الأهم والذي يعكس الواقع أن نحو نصف المجتمع العربي يعيش تحت خط الفقر، إذ إن 39 في المئة من الأسر العربية تعيش تحت خط الفقر، وفق المعطيات الإسرائيلية الرسمية للعام 2023، وخلال الحرب الحالية ازدادت الأوضاع الاقتصادية سوءًا؛ والفقر لا يعني فقط أوضاعًا اقتصادية متردّية، بل يعني مستوى اجتماعيًّا وثقافيًّا وتربويًّا وصحيًّا متردّيًا، فما فائدة التقدّم الاقتصادي أو المعيشي المزيّف، ولو كان حقيقيًّا لشريحة معيّنة، في مجتمع غارق بالفقر بكل معانيه؟

هذا الواقع الذي نعيشه رغم مظاهر التقدّم الاقتصادي، تقدّم يقوم على تقديم الخدمات والطعام وبيع الملابس، لكنّنا مجتمع فقير ينزف دمًا، وباتت بلداتنا غير صالحة للعيش السوي، خزّانات بشرية، ليس فيها من مقوّمات الصحة الجسدية والنفسية والتربوية والثقافية أيّ شيء، لا مستقبل لها، تضيق وتضيق، بانتظار الانفجار الداخلي الكبير.

مجتمع فقير محكوم بعصابات الإجرام، وبات الفقر مصدر تغذية لهذا الإجرام، أولًا بتوفير "الجنود" في هذه العصابات، وثانيًا من خلال الاستدانة من "السوق السوداء".

ليست المشكلة في الفقر بمعناه المادي الاقتصادي، بل بمعانيه التربوية والثقافية والوطنية، فقد كان هدف تصفية القيادة الوطنية وملاحقتها، وسياسات الإفقار ومصادرة الأراضي والقضاء على الزراعة والخناق العمراني، ليس فقط حسم قضية المواطنين العرب، بل ضرب الهوية الوطنية، الإخضاع من خلال التشويه، والهوية الوطنية ليس المقصود فيها المواقف السياسية، بل الانتماء، أو الشعور بالانتماء إلى مجموعة لها ماض ومصير مشترك، هدف كبير واحد، فما هدفنا المشترك؟

تقدّم القيادات السياسية، البرلمانية تحديدًا، إجابات مختلفة، لكنها لا ترقى إلى مستوى السؤال. فمشاريعها السياسية الحالية لا تتجاوز التكتيكات السياسية قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة: هل نخوض الانتخابات بقائمة واحدة أو بقائمتين؟ وعلى أهمية التمثيل البرلماني وضرورته، إلا أن هذا السلوك لا يحمل مشروعًا سياسيًّا جديًّا، ولا يحدّد هدفًا كبيرًا مشتركًا، والهدف الكبير المشترك يُختزل بالهوية، الهوية الوطنية، وليس الحفاظ على الهوية، فقد تجاوزنا هذه المرحلة بالمعنى السلبي، بل إعادة بناء هذه الهوية الجماعية الوطنية، وأمام ناظرنا الإبادة في غزة، فلا يمكن أن نستمر في حالة الإنكار التي نعيشها لما يحصل في غزة، فهذا قد يتحوّل إلى جحود، يجعلنا جماعة تافهة مجوّفة، بلا أخلاق ولا قيم، فقراء ماديًّا وثقافيًّا وتربويًّا، نتقمّص دور الأثرياء بمظاهر الاستهلاك والبهرجة والمباهاة المادية الفارغة.

لم يكن ما بعد السابع من أكتوبر طوفانًا، إنه زلزال وجودي ووجداني نلمس ارتداداته في كل نواحي حياتنا، والنهوض منه يكون بعملية بناء أعمق من الخطاب السياسي السائد والرديء الذي تجسّده حالة منصور عباس.

إن النهوض في مجتمع فقير يكون بالعمل المشترك لبناء جماعة متماسكة نحو هدف سامٍ مشترك، تربطها الهوية والانتماء المشتركان، لكن ما هو الهدف المشترك؟

من المفترض أن تكون الإجابة عند السياسيين والحركات السياسية، وإذا ما انطلقت الإجابة من قاعدة بناء الهوية والانتماء، تُصبح الطريق إلى الإجابة سالكة.

أمثال منصور عباس لا يقدّمون إجابة، حتى لو اعتقد أنه يحمل مشروعًا؛ فهو يلتقي مع بتسلئيل سموتريتش في طرحه؛ فهذا الأخير يبني عقيدته – عقيدة الحسم – على عقيدة يهوشوع بن نون بأن يضع أمام عدوه ثلاثة خيارات: إما الخضوع – العبودية، أو الإبادة، أو الرحيل – التهجير. فعباس هذا استَطاب الخيار الأول.

يبقى خط الدفاع الأساسي أمام محاولة حسم مصير العرب في الداخل من خلال التشويه والإفقار، هو الهوية والانتماء. أما باقي الطروحات عن خطاب يتجاوز الحقوق القومية والهوية، فقد جرّبناها في السنوات الأخيرة، وكلها باءت بالفشل.