إلى متى يمكن للاحتلال أن يواصل هذه العربدة والإجرام ضاربًا القوانين الدوليّة بعرض الحائط؟
يقتل ويصادر الأرض ويهدم، يعتقل ويشرّد ويهجّر، من غير حساب ولا رادع أخلاقي أو سياسي أو قانوني، مستهترًا بالأصدقاء والحلفاء والمطبّعين العرب قبل غيرهم، وخصوصًا أولئك الذين يحاولون زعم التوازن والموضوعية بين الضّحية والجلاّد.
الرأي السائد لدى أكثر الناس هو أن إسرائيل دولة فوق القانون، ولا أحد يستطيع محاسبتها، ما دام أن من يقفون وراءها، هو الذين يقرّرون سياسات الدّول في العالم، وأن نفوذهم في أميركا وأوروبا راسخٌ لا يتزعزع، ويبدو أنّ دولا كبيرة ذات وزن تخشى من غضبهم عليها.
نجحت قيادات إسرائيل لأكثر من سبعة عقود في فرض وقائعها على الأرض بقوّة الاحتلال، بغطاء من فيتو أميركي دائم، مدعوم من فرنسا وبريطانيا، وتواطؤ أوروبي، وخصوصًا ألمانيا التي تعتبر نفسها مسؤولة أولى عن أمن إسرائيل كدَينٍ تاريخي للشعب اليّهودي عليها.
في عقودها الأولى تمتعت إسرائيل بشريحة من القادة السّياسيين المحنّكين والمراوغين، الذين كانوا ينكرون رغبتهم في ضمّ أي جزء من الأرض العربية، بما في لك الضّفة الغربية والجولان وسيناء، نجحوا في إظهار إسرائيل كضحيّة ضعيفة تسعى إلى السّلام في محيط معادٍ ومتوحش بعيدٍ عن الحضارة، يتربّص بها لمحوها عن الوجود.
هذا الواقع تغيّر كثيرًا منذ اتفاقات كامب ديفيد وأوسلو ووادي عربة، فقد ظهر أنّ العرب والفلسطينيين معنيون بالسّلام وإنهاء الصراع، وقوبل هذا بتوحّش الاحتلال أكثر فأكثر، وإظهار أطماعه، متسلحا بحصانة ضد القوانين الدولية بغطاء مفاوضات السّلام والتطبيع.
حرب الإبادة على قطاع غزّة المستمرّة منذ أكثر من 630 يومًا، وما تخللها من مجازر موثّقة بالصوت والصورة، التي لم تستثن أي مجموعة أو شريحة من سكانية أو مؤسّسة طبّية أو غيرها، أجبرت المجتمع الدّولي ولو تدريجيًا على مساءلة الجلاد بعد طول انحياز، ولا مبالاة.
شهدت القضيّة تحرّكات دولية غير مسبوقة، وأهمُّها ما قامت به دولة جنوب أفريقيا التي كسرت حاجز الصّمت، وتقدّمت بشكوى إلى محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
ظهور مؤسسات مثل "هند رجب" الحقوقية، التي تأسّست تكريمًا لذكرى الطفلة الفلسطينية هند ابنة السّنوات الخمس التي قُتلت في مجزرة علنية في كانون ثاني 2024 هي ومن كانوا برفقتها في سيارة وطواقم طبية حاولت نجدتها.
جمعت مؤسسة هند رجب التي تأسّست في بلجيكا قائمة بأسماء ضباط وجنود إسرائيليين، وقدمت شكاوى ضدهم في أوروبا وأميركا اللاتينية، بتهم ارتكاب جرائم حرب.
حتى وإن لم تُسفر هذه الإجراءات فورًا عن مذكرات توقيف أو محاكمات علنية، فإن تقييد حريّة السّفر لبعض الضباط الإسرائيليين، وفضح أسمائهم في الإعلام، وتقديمهم كمتهمين وليس كأبطال، كلها خطوات تمهّد الطريق لنزع الحصانة الأخلاقية والسّياسية عن الاحتلال التي طالما شكّلت درعا واقيًا له، بزعم أنه الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.
إنّ صوت الضمير الغربي لم يأت من الحكومات، بل من الجامعات، والنقابات، ومن الشّارع. وقد لعبت منصّات التّواصل الاجتماعي دورًا حاسمًا في نقل صورة حقيقية لجرائم الحرب. ويعود هذا بفضل الشّباب الفلسطيني وخصوصًا المحاصرين في قطاع غزة، والشّباب العربي الذي وجد نافذة للتعبير عن تضامنه مع فلسطين رغم أنف مواقف الحكومات العربية الصامتة، والتي تمثّل دور المحايد في الصّراع لكسب رضا الاحتلال وأمريكا، فقمعت مختلف صور التّضامن مع شعب قطاع غزة، لدرجة طرد والاعتداء على المتضامنين الأجانب في مسيرة الصمود.
كذلك فقد خرجت في الولايات المتحدة وأوروبا، وفي عشرات الجامعات موجة احتجاجات غير مسبوقة على جرائم الحرب الإسرائيلية.
اعتصم الطلبة ورفعوا الأعلام الفلسطينية، وطالبوا إداراتهم بقطع العلاقات الأكاديمية والاستثمارية مع إسرائيل.
لم تعد القضية مجرد نشاط طلابي، بل تحوّلت إلى مواجهة بين جيل طلابي متضامن بوضوح مع شعب فلسطين، وإدارات جامعية تقليدية ما زالت خاضعة لوطأة القِشْرة القديمة.
في هذا السّياق، برزت ظاهرة المرشّح الديمقراطي لرئاسة بلدية نيويورك زهران ممداني، وهو مسلم ذو جذور إفريقية-هندية، أثار عاصفة سياسية بعد تصريحه العلني بأنّه "سيسعى لاعتقال بنيامين نتنياهو إذا دخل نيويورك بتهمة ارتكاب جرائم حرب". وقد وصفه ترامب بالشّيوعي المتطرّف، وتحاول مجموعات ضغط صهيونية تشويه صورته، ومن ثم سحب الجنسية الأميركية منه، لمنع وصوله إلى رئاسة مدينة بأهمية نيويورك، ولكن يبدو حتى الآن أنّهم لن يستطيعوا منعه من الوصول إلى هذا الموقع الهام.
زهران يمثل انعكاسًا لغليان أخلاقي في الشّارع الأميركي وخصوصًا الشّاب، الذي بدأ ينحاز إلى حقوق الفلسطينيين، والاعتراف بالظلم التاريخي الواقع عليهم، وبات يرى حكومة الاحتلال على حقيقتها الإجرامية.
رغم كل هذا الزّخم الشّعبي، ما زال الغرب يوفّر الحماية للاحتلال في مجلس الأمن، وما زالت معظم العقوبات مجرّد مطالبات بلا قوة تنفيذ.
رغم هذا فإن المؤشرات لا تخطئ، فالشرعية الأخلاقية للاحتلال تتآكل يومًا بعد يوم، وهنالك ضباط إسرائيليون باتوا يتجنّبون السّفر إلى دول معيّنة خشية اعتقالهم.
عشرات ملايين من البشر باتوا يطرحون السؤال بصوتٍ مرتفع: إلى متى تمارس دولة الاحتلال جرائمها بلا عقاب؟ وإلى متى ممكن للأنظمة العربية بصورة خاصة أن تتظاهر بالصّمم والحياد الكاذب بين الحق والباطل، بين الجلاد والضّحية! مخجل أن يتساءل الغربيون: أين العرب مما يجري في غزة؟
ما نشاهده في الرّأي العام الدّولي هو ردّة فعل مباركة على مذابح قطاع غزة، وهذا يحتاج إلى أن يتطوّر من ردة الفعل إلى أن يصبح نهجًا ثابتًا من القضية الفلسطينية.
الحكومات الأوروبية وغيرها بخلاف الشّعوب، توجهّها في سياساتها المصالح وتجاذبات القوى الكثيرة على السّاحة الدولية، ولهذا فإنّه غنى عن دور العَرب شعوبًا وقيادات، ويجب أن يرتقي إلى مستوى الخطر المحدق بشعب فلسطين وفي المنطقة العربية كلّها، فدور الحياد بين الجلاد والضّحية الذي تلعبه أكثر الأنظمة العربيّة يخدم الجلاد، ويضعها في صف واحد ومتواطئة إلى جانبه.