صباح اليوم الرابع والعشرين من شهر حزيران/ يونيو لعام 2025، وبعد 12 يومًا من الحرب الضارية والمدمرة بين إسرائيل وإيران، تم الاتفاق على وقف إطلاق النار. فتوقف القصف الجوي بالطائرات من قبل إسرائيل، ووقف القصف الجوي بالصواريخ والمسيّرات من قبل إيران. وهي حرب بادرت إليها إسرائيل بعد أن أعدت لها جيدًا على مدار سنوات كثيرة، وبعد أن نسّقت مع الإدارة الأميركية حول موعد انطلاقها كما حول أهدافها. ولكن رغم الخسائر الكبيرة، البشرية والمادية والنفسية، لكل من الطرفين المتحاربين، فإن "حرب الأيام الـ12" ظلّت غير مكتملة، بمعنى أنها انتهت دون انتصار أحد الطرفين. والحرب غير المكتملة*، كما نعرف، تنذر بدورها باستئناف القتال في المستقبل غير البعيد، خاصة إذا تعذر الاتفاق بين الطرفين، والأطراف الرئيسية المعنية الأخرى، حول نقاط الخلاف التي أدت إلى اندلاعها أصلًا. علمًا بأن الولايات المتحدة شاركت في الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، وذلك إلى جانب مشاركتها مع دول أخرى في التصدّي للصواريخ البالستية والمسيّرات الإيرانية المتجهة نحو أهداف لها في عمق إسرائيل.
لقد بادرت إسرائيل إلى "حرب الأيام الـ12" في موعد مؤات من وجهة نظرها. فعدا الادعاء بأن إيران كانت على بعد أسابيع أو شهور قليلة من الوصول إلى القنبلة النووية، هناك عاملان آخران كانا في صالح الموعد الذي تم اختياره: الأول ذو علاقة بوجود ترامب في البيت الأبيض، والثاني ذو علاقة بما أنجزته إسرائيل خلال عشرين شهرًا من حربها على حماس وأخواتها في قطاع غزة وحزب الله في لبنان، وما تخلل ذلك من خروج سورية من المحور الذي تقف إيران على رأسه. فخروج سورية من ذلك المحور، وإسكات الصواريخ والمسيّرات التي تنطلق من كل من غزة ولبنان، خفّض كثيرًا من حرارة الحزام الناري حول إسرائيل، وقلّل بالتالي من خسائرها البشرية والمادية من جهة، ومنحها فرصة أكبر للتركيز على استهداف إيران في عقر دارها من جهة أخرى. أما وجود ترامب على رأس الإدارة الأميركية فمنحها كل ما يلزم من الغطاء السياسي والقانوني الدولي ومن الإسناد المخابراتي والعسكري. وكما كنا شاهدين، فقد لعب الرئيس الأميركي دورين مكمّلين في حرب الأيام الـ12: دور المشارك في الحرب دفاعًا وهجومًا، ودور طافئ نارها، ولو إلى حين.
لست خبيرًا عسكريًّا، ولست خبيرًا لشؤون إسرائيل أو إيران. ولا يحتاج المرء إلى مثل هذه الصفات كي يستنتج التالي:
1. "حرب الأيام الـ12" قد انتهت، ولكن دون أن تكتمل، أي دون انتصار واضح لأحد الطرفين المتحاربين على الطرف الآخر. فرغم الضربات العسكرية الموجعة لكل منهما وما ألحقته من خسائر وأضرار فادحة، إلا أن النصر لأيٍّ منهما ظلّ بعيد المنال. وبصورة خاصة، لم تستطع إسرائيل تقويض القدرات الصاروخيّة وتدمير المنشآت النووية الإيرانية، كما أرادت وخططت. كما لم تستطع إيران، في المقابل، تدمير ما قالت إنها قادرة على تدميره في إسرائيل. والحرب غير المكتملة تنذر باستئناف المواجهة العسكرية في المستقبل غير البعيد، وذلك في غياب الحلول السياسية التي تعالج أسبابها.
2. لقد تجلّت في حرب الـ12 يومًا، وأكثر من أي وقت مضى، محورية الدور والموقف الأميركيين. فبدون الضوء الأخضر الأميركي، ما كانت إسرائيل لتُقدم على إشعال النار، وبدون الضوء الأحمر الأميركي، ما كانت لتقبل بإطفائها. ومحورية الدور الأميركي تتضمّن، من بين أشياء أخرى، قيادة المفاوضات حول الملف النووي الإيراني خلال الأسابيع والأشهر القادمة، وذلك بهدف التوصل إلى اتفاق يُطمئن إسرائيل المتوجسة من جهة، ويحترم حق إيران في امتلاك مفاعل نووي للأغراض السلميّة من جهة أخرى.
3. في حرب الأيام الـ12، كما خلال العشرين شهرًا التي سبقت من الحرب على قطاع غزة، وخلالها على حزب الله في لبنان، كانت الدول العربية، فرادى وجماعات، على هامش الهامش من حيث التأثير على مسار الحرب والقتال. فما استطاعت إدخال حبّة دواء واحدة، أو كمشة طحين واحدة، أو إسعاف جريح واحد دون موافقة قوات الاحتلال. وذلك رغم رغبتها واستعدادها لتقديم المساعدات الإنسانية اللازمة والكافية، ورغم تبنّيها لخطة ذات علاقة بحكم قطاع غزة وإعادة إعماره بعد الحرب. ورغم تباين المخاوف والمواقف تجاه كلٍّ من إسرائيل وإيران وأذرعها، فقد ظلّ عرب المشرق العربي مجرد متفرّجين على الصواريخ والمسيّرات الإيرانية والطائرات والصواريخ الاعتراضية الإسرائيلية وهي تنتهك حرمة أجواء دولهم. وكأن الأمر لا يخصّهم. عرب ضاعوا!
4. وبعد ما يقارب الـ21 شهرًا من الحرب المدمّرة على قطاع غزة، حرب تخلّلتها حرب الأيام الـ12 على إيران، وقبل ذلك حرب الـ14 شهرًا ونيف على لبنان، وبعد شهور من المراوحة في المكان، عاد ملف المفاوضات حول وضع ومستقبل غزّة إلى صدارة جدول أعمال الأطراف الرئيسية المعنية. وفي هذا الصدد، أميل إلى الاعتقاد بأن التوصل إلى صفقة لوقف إطلاق النار بات وشيكًا. وأعتقد أيضًا أن مواصفاتها لن تكون أفضل، وعلى الأرجح أن تكون أسوأ، من مواصفات تلك الصفقة التي أوصلت إلى وقف إطلاق النار في لبنان.
وفي جميع الأحوال، فإن موقف الرئيس الأميركي سوف يكون هو الطاغي، تمامًا مثلما كان موقفه طاغيًا في ساحات القتال الأخرى.
وأخيرًا، يخطئ كل من يعتقد أن القضية الفلسطينية سوف تخرج رابحة من تلك المواجهة التي أشعل نارها "طوفان الأقصى"، تلك النار التي امتدّ لهيبها إلى طهران وأبعد. ويفحش في الخطأ كل من يعتقد أن حل الدولة الديمقراطية الواحدة أو حل الدولتين المتوافق مع الثوابت الوطنية الفلسطينية صار أقرب مما كان عليه في السابق. على العكس تمامًا. فحال قطاع غزة أسوأ مما كان عليه في أي وقت مضى منذ اتفاقيات الهدنة عام 1949، وحال الضفة الغربية والقدس أسوأ مما كان عليه منذ عملية "السور الواقي" قبل حوالي ربع قرن، وحال فلسطينيي الداخل يذكّر في بعض جوانبه بأيام الحكم العسكري قبل ستة عقود، وحال الفلسطينيين في لبنان وسورية، كحال دول الجوار العربية، لا يبشّر بالخير (أقلّ ما يقال).
وختامًا، ومن باب تربية الأمل، أقول: لقد مرّ الشعب الفلسطيني خلال قرن ونيف من الصراع على فلسطين بفترات عصيبة ضاقت فيها فسحة الأمل. ولكنه عرف كيف ينهض، وينفض ما تراكم من الغبار، ويتحدّى. ولمن يقول إن هذا أصبح مستحيلًا بعد الذي حصل خلال الـ21 شهرًا الأخيرة، أُردّد ما قاله شاعرنا الكبير: إن "المستحيل على بُعد جيل"، وربما أقلّ بكثير من ذلك إذا عرفنا كيف نتدبّر أمورنا الوطنية بحكمة، وإذا كان "مكر العقل في التاريخ" لصالح عدالة قضيتنا!