تشكل عبارة "ما لا يُقاس لا يمكن تحسينه"، التي تُنسب إلى عالم الإدارة بيتر دراكر، قاعدة أساسية في مجالات الحوكمة والتنمية والمساءلة في الدول الحديثة. لتحقيق تغيير فعال، نحتاج إلى معلومات دقيقة تتجاوز مجرد معرفة المشكلة، لتحديد حجمها وآثارها مع الزمن.

في السياق الفلسطيني، تتضاعف قيمة قياس، واقع سياسي اقتصادي هش، موارد شحيحة، واحتلال يقيد الحركة والمعلومات. نحن بحاجة ماسة إلى أدوات قياس دقيقة ترسم صورة واضحة للمعضلات والأزمات المتتالية، وتساعدنا في توجيه جهود الإصلاح.

عوائق بنيوية أمام القياس في الفلسطيني

من لا يمتلك بياناته لا يمتلك قراره، وبغياب القياس يبقى التخطيط رهين الحدس، في الحالة الفلسطينية، رغم وجود مؤسسات راسخة كالجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني وديوان الرقابة المالية والإدارية، ما تزال ثقافة القياس تعاني، فالقدرة على إنتاج المعرفة والحقائق الدقيقة ضرورة ملحة، لمواجهة الهيمنة، ولمقاومة التهميش، ولتوجيه الموارد في مجتمع يعاني من الندرة والتشتت، وللمساهمة في زيادة القدرة والمواجهة على الاستجابة للطوارئ والتخطيط التنموي.

إن ثقافة "القياس" ما زالت تواجه معيقات هيكلية، تتراوح بين غياب الإرادة، وتسييس البيانات، وضعف التنسيق القطاعي، تفتقر الخطط الوطنية إلى مؤشرات قياس واضحة، مما يجعل التقييم الفعلي للأداء شبه مستحيل، وتعاني المؤسسات من غياب التنسيق بين الوزارات، مما يعيق اتخاذ القرارات الفعالة. إضافة لذلك تفرض القيود الاحتلالية عوائق أمام إجراء التعدادات والمسوح الشاملة، مما يخلق فجوات في البيانات الوطنية.

وتصبح القدرة على القياس والتحليل شرطًا للبقاء، لا فقط للتحسين، فلا يمكن معالجة الفقر، البطالة، العنف القائم على النوع الاجتماعي، أو فجوات التعليم والصحة دون بيانات دقيقة، محدثة، وقابلة للتحليل.

رغم أن فلسطين أطلقت عددًا من الخطط الوطنية الطموحة، مثل "أجندة السياسات الوطنية 2017–2022: المواطن أولًا"، إلا أن كثيرًا من هذه الخطط تظل حبيسة الشعارات العامة دون ربطها بمؤشرات أداء كمية واضحة، أو أدوات متابعة وتقييم منهجية. وهو ما أكدته عدد من التقارير الصادرة عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية – أوتشا (OCHA) في 2022، أشار إلى أن "ضعف وجود مؤشرات متابعة قابلة للقياس في الخطط الفلسطينية يعيق تحويل السياسات من نوايا إلى نتائج". المراجعة التي قام بها ديوان الرقابة المالية والإدارية للعام (2021) لخطة "الإصلاح الإداري" أظهرت أن 68% من الأهداف لم ترتبط بمؤشرات كمية، مما أعاق تقييم الأداء الوزاري. وتقرير UNDP فلسطين 2022 أشار إلى أن "عدم وجود أدوات قياس مبنية على حقوق الإنسان يعيق التتبع الشامل لتأثير السياسات على الفئات الهشة".

تعاني المؤسسات الفلسطينية من غياب التنسيق الأفقي بين الوزارات، ومن الاعتماد على بيانات غير محدثة أو مجزأة، تُبنى أحيانًا على تقديرات أو مسوح جزئية. وهو ما أكده ديوان الرقابة في تقريره السنوي (2023) حيث رصد وجود 14 جهة تقدم خدمات اجتماعية دون وجود نظام معلومات مركزي يضمن التكامل وتبادل البيانات بينها. ودراسة ESCWA   (2022) حول النظم الإحصائية في الدول العربية صنّفت فلسطين ضمن الدول التي "تمتلك بنية إحصائية قوية، لكنها تعاني من ضعف التنسيق بين المنتجين والمستخدمين للبيانات". وتقرير OECD حول الشفافية في السياسات العامة (2021) حذر من أن الدول التي تعتمد على بيانات قديمة تعاني من "صناعة قرارات قائمة على الحدس لا على الأدلة".

يُشكل الاحتلال الإسرائيلي عائقًا ماديًا ومنهجيًا أمام القدرة الفلسطينية على إجراء قياسات شاملة ومنتظمة، سواء من خلال منعه لإجراء التعدادات في مناطق القدس، أو عرقلة عمل الباحثين في المناطق المصنفة (ج)، أو عبر تدمير البنية التحتية في غزة خلال الإعتداءت المتكررة، وتم إظهاره ضمن تقرير اليونيسف في فلسطين 2023 بيّن أن "القيود المفروضة من الاحتلال تعرقل تنفيذ المسوح السكانية، خاصة في المناطق النائية، مما يخلق فجوات معرفية تعوق التخطيط". وفي تقرير البنك الدولي حول "الفقر وعدم المساواة في الأراضي الفلسطينية" (2022)، ورد أن "غياب بيانات دقيقة في بعض المناطق يمنع توجيه المساعدات بالشكل الأمثل، ويُضعف الشفافية".  ووفقًا لتقرير هيومن رايتس ووتش (2022)، "تعمد إسرائيل تقويض الأنظمة المعلوماتية الفلسطينية في القدس الشرقية ضمن سياسة السيطرة والتحكم المعرفي". ومن المعيقات الملوسة،

•    منذ 1967، لا يُسمح للجهاز المركزي للإحصاء بإجراء مسوح ميدانية شاملة في القدس الشرقية.

•    خلال العدوان على غزة في مايو 2021، تم تدمير 66 منشأة تعليمية، ما تسبب بفقدان مؤشرات التعليم لآلاف الطلبة دون إمكانية تعويض البيانات.

•    كثير من المسوح المتعلقة بالصحة، كالمسح العنقودي متعدد المؤشرات (MICS)، تتأخر لسنوات بسبب تعقيدات التنقل الميداني والتصاريح.

•    الاحتلال يمنع إجراء التعداد العام في القدس منذ 1967، ويمنع فرق الإحصاء من دخول أكثر من 60% من مناطق "ج".
نحو ثقافة قياس فلسطينية

غياب أدوات القياس الدقيقة في السياق الفلسطيني ليس مجرد خلل إداري، بل هو عائق استراتيجي يمنعنا من معرفة أين نقف، وإلى أين نتجه، وكيف يمكن أن نُحسّن، فما لا يُقاس لا يُمكن تحسينه" ليست شعارًا إداريًا، بل دعوة لاسترداد السيادة المعرفية، وتحرير القرار الوطني من الضبابية.

علينا مأسسة وحدات للرصد والتقييم دائمة في الوزارات والهيئات، بحيث تُصبح عملية التقييم جزءًا من دورة السياسات لا مرحلة شكلية لاحقة. وفقًا لتقرير ديوان الرقابة (2022)، فإن 73% من البرامج الحكومية الممولة خارجيًا تفتقر لخطة متابعة وتقييم مدمجة منذ مرحلة التصميم، مما يؤدي إلى صعوبة قياس الأثر الحقيقي. وتقرير (UN ESCWA 2023) نصّ على أن "غياب ثقافة التقييم المؤسسي في الدول العربية يؤدي إلى هدر يفوق 3% من الناتج المحلي سنويًا بسبب سوء التخطيط".

الاستثمار ببناء القدرات الوطنية نحو تعزيز منهجية القياس، وتأهيل باحثين وباحثات من الشباب، لقيادة عمليات القياس وجمع البيانات وتحليلها، وتوجيه الدعم لبناء كفاءات وطنية وإطلاق برامج بمجالات الإحصاء التطبيقي، تحليل البيانات، وتقنيات التقييم التشارك، والتدريب المهني، وإشراك الجامعات في تطوير تخصصات ذات صلة.

 فالاعتماد على خبراء خارجيين أو جهات مانحة في تنفيذ المسوح والتقييمات، يخلق فجوة معرفية ويضعف الاستدامة، جامعة بيرزيت أطلقت برنامجًا تجريبيًا عام 2024 حول "القياس الاجتماعي والسياسات المبنية على الأدلة"، لكنه لا يزال محدود الأثر ما لم يتم تعميمه.

إشراك المجتمع المحلي البيانات الرقمية وحدها لا تكفي. المقابلات المعمَّقة، المجموعات البؤرية، والخرائط الاجتماعية تكشف ما لا تظهره الأرقام. تقارير أوكسفام تُظهر أن المشروعات التي دمجت المجتمعات في التقييم ارتفعت استدامتها 40٪، تقرير UNDP فلسطين (2023) أوصى باستخدام أدوات تشاركية في تصميم السياسات خاصة في القطاعات الإنسانية، لما لها من أثر في رفع فعالية التدخل.

تعزيز الشفافية والمساءلة باستخدام النتائج (من القياس إلى المساءلة) من دون نشر نتائج القياس والتقييم للناس، وربطها بصلاحيات واضحة للمساءلة، لتحسين الأداء، وتصويب المسارات، تفقد أدوات القياس معناها، وتصبح مجرد أوراق في الأدراج. نشر نتائج القياس بانتظام عبر «تقرير حكومي سنوي للقياس»، وإطلاق منصات بيانات مفتوحة تربط الأرقام بخطط العمل، مع منح المجتمع المدني أدوات لمساءلة الأداء.

تدويل العوائق الاحتلالية بتوثيق القيود التي يفرضها الاحتلال ورفعها إلى المحافل الدولية للضغط من أجل حرية جمع البيانات، لأنه حق سيادي وليس تفصيلاً تقنيًّا.

في فلسطين، من لا يمتلك بياناته، لا يمتلك قراره، وإن أردنا بناء دولة قادرة على الصمود والمناورة والنمو، فلا بد أن نبدأ من حيث تبدأ الأمم المتقدمة: بالمؤشرات، والقياس، والتقييم المستمر. فالمستقبل لا يُبنى بالحدس، بل بالحقائق.

"ما لا يُقاس لا يُمكن تحسينه" ليست مجرد عبارة شهيرة، بل استراتيجية بقاء وحجر الأساس لكل عملية تطوير ممنهجة، وبين الاحتلال، والانقسام، والأزمات الاقتصادية، لا خيار أمام فلسطين سوى الانتقال من ثقافة التقدير إلى ثقافة التقييم، ومن الإدارة بالحدس إلى الإدارة بالبيانات، الدول التي تتقدم تبني قراراتها على مؤشرات لا انطباعات. إن أردنا الصمود والتفوق، يجب أن نمتلك بياناتنا ونستخدمها. فالقياس الفعّال أصبح ضرورة، واستراتيجية بقاء.

المستقبل لا يُبنى بالحدس، بل بالحقائق، ومن لا يقيس يبقى أسير الارتجال، يُعيد أخطاءه بدلاً من تصحيحها.