«ففتي ففتي» تعني القسمة مناصفة.. وسأستخدم هذا المصطلح مجازاً لتحليل أسباب هزائمنا وإخفاقاتنا المتتالية.
لو استعرضنا تاريخ الصراع العربي الصهيوني، سنخلص بنتيجة في غاية الوضوح، تدعمها عشرات البراهين، وهي أن مشروع الغرب الاستعماري، والمشروع الصهيوني الإمبريالي (إسرائيل) في تقدم مستمر، يحقق الإنجازات، ويطور قدراته، ويرسخ أقدامه، يخوض حرباً تلو حرب، صحيح أنه يخسر ويتأذى في بعضها، إلا أنه في المجمل منتصر.. في المقابل الوضع الفلسطيني والعربي والإسلامي والعالم الثالث عموماً في أسوأ حالاته، في تراجع مستمر، ويتلقى الضربات والصفعات، ويهبط من قاع إلى قاع.
ليس فيما تقدم ذكره أي دعوة لليأس والإحباط أو جلد الذات، أو الدعوة للاستكانة والاستسلام، بل هو مجرد تشخيص لواقع يراه الجميع، ودعوة للتفكير في أسبابه وحيثياته، لعلنا نجد طريقاً للخلاص، ونضع أقدامنا على بداية سكة الانطلاق نحو أفق جديد.
من وجهة نظري المتواضعة، أن أحد أهم أسباب انتصارات المشروع الإمبريالي الصهيوني هو اعتماده على التخطيط الإستراتيجي، بما يشمل تقدير الموقف، وقراءة الواقع بدقة، وجمع البيانات، وتحليل المعلومات، وإعداد الخطط والبدائل والسيناريوهات المحتملة، والاستعداد المادي (تكنولوجياً وصناعياً واقتصادياً وعسكرياً وتقنياً.. إلخ)، ولكن، جميع ما سبق يمثل 50% من توفير عوامل النجاح، أما الـ50% الباقية فتعتمد على غباء الخصم.. نعم غباء الخصم.
لو قمنا بدراسة تحليل عوامل نجاح جميع المخططات والمؤامرات والحروب والاغتيالات والعمليات العسكرية، واحتلال دول ومناطق، وإسقاط أنظمة وتغيير حكومات، وأعمال التدمير وافتعال حروب أهلية، وإدارة الصراعات المحلية والإقليمية، وكل ما يخطر ببالك، وما حدث خلال المائة سنة الأخيرة ضد الأمة العربية والإسلامية، ستتأكد أن العدو اعتمد بشكل كبير على غباء الخصوم.
الخصوم هم نحن: قيادات وزعامات ومؤسسات وميليشيات ومحللون وجماهير.
أما الغباء؛ فيشمل: العناد والعنجهية والتهور والاستهتار، الفساد بأنواعه، الاستبداد والتفرد بالحكم، التخبط والارتجال وانعدام التخطيط، الرهانات الخاطئة والحسابات المتسرعة، ضيق الأفق، التفكير بالتمني والعواطف، العقلية الطائفية والماضوية، التعصب والانغلاق، قمع الأصوات المعارضة، وتغييب الكفاءات المتخصصة، وضعف التفكير العلمي والمنهجي والعمل المؤسساتي.
سأذكر مثالين فقط لتوضيح الفكرة: العراق وإيران.
وحتى لا نعود إلى الماضي البعيد، لنبدأ من 2 آب 1990، عندما احتل العراق جارته الكويت، ونشبت أزمة وحرب الخليج الأولى، التي مثلت نقطة الانعطاف الكبرى والأهم خلال الأربعة عقود الماضية، والتي من بعدها فرطت المسبحة، وكل ما حدث لاحقاً تأسس على تلك اللحظة التاريخية، أو بعبارة أُخرى على تلك الخطوة الغبية التي افتتحت عصراً جديداً.
وبعيداً عن التحليل السياسي، سأورد مقتطفاً من مذكرات حسن عبد الرحمن (سفيرنا في واشنطن): «رتبنا لقاء غير رسمي لياسر عرفات مع الرئيس الأسبق جورج بوش الأب، في بيته في هيوستن، سيحضره فقط جيمس بيكر. استقبلنا الرئيس استقبالاً مُهذباً برفقة زوجته التي جاءت وسلّمت علينا وقالت: أعددت كعكاً من صنع يدي، وسأُقدمه لكم مع الشاي. شكرها ياسر عرفات، ثم بادر إلى تقديم هدية لها عبارة عن جاكيت مطرز تطريزاً فلسطينياً، ثم جلسنا في صالون دائري. أحسست للحظة بأن الجو ينقصه الدفء، خاصة أن ذلك كان أول لقاء بين عرفات وبوش، بعد أن كانا خصمين خلال حرب العراق والكويت».
«تحدث بيكر عن لقائه مع وزير الخارجية العراقي طارق عزيز في 12 كانون الثاني 1991، في الاجتماع التاريخي الذي حظي باهتمام العالم كله، وقد تقدم بيكر بورقة مختصرها أنه إذا انسحب العراق من الكويت تنتهي الأزمة، لكن طارق عزيز رفض استلام الرسالة، وتركها على الطاولة في الفندق»، يقول بيكر: «بصراحة، أنا كنت سعيداً بذلك، لأننا كنا قد التزمنا للدول العربية والعالم كله أنه إذا انسحب صدام حسين، لن نمسّ قواته، ولكن إذا لم ينسحب سندمرها، وكنا نخشى أن يقبل صدام بالانسحاب، ويحتفظ بقواته كاملة كما دخلت الكويت، وبالتالي سيظلّ يهدّد سلام المنطقة وأمنها، لذلك، فإن كل ما كنا نتمناه قد حصل؛ لأن الكابوس بالنسبة إلينا كان أن يقبل صدام بالانسحاب».
إيران كررت أخطاء العراق حرفياً، ولا أقصد فقط ما يتعلق بالمفاوضات وتصلب موقفها.. الأخطاء بدأت قبل ذلك بكثير.. بدأت بمسار التركيز على بناء قوة عسكرية ضخمة، وتسخير كل مقدرات الدولة للجيش والحرس الثوري وفيلق القدس، والمشروع النووي، والتصنيع العسكري وخوض الحروب، وبناء وتمويل ودعم ميليشيات موالية لها، والإنفاق عليها، وتغذية الصراعات والتورط بها.. هذا المسار كلف إيران تريليونات الدولارات، وأزهق ملايين الأرواح، واستنزف قدرات الدولة والمجتمع، وكان على حساب مسارات التطور والتنمية الأخرى.. وبعد عقود وسنوات وجهود جبارة انهار كل شيء خلال أسابيع.
تحدثت سابقاً عن إشكالية الإنفاق غير العقلاني على التسليح وصفقات الأسلحة والتصنيع العسكري.. والخطأ القاتل في فهم مصطلح «القوة»، بحصرها فقط في القوة العسكرية، ومواجهة العدو في مجال وحيد ومركزي، هو الحروب والسلاح، وهو المجال الذي تتفوق فيه إسرائيل بشكل خارق، والمجال المفضل لها، الذي تبرع فيه، والذي من أجله زُرعت في المنطقة.
لو أسقطنا هذين المثالين على تجربتَي «حزب الله» و»حماس»، وعلى كل تجاربنا الكفاحية الوطنية والقومية، سندرك أحد أهم أسباب هزائمنا وفشلنا المزمن.. وربما نعرف كيف تمكنت إسرائيل من اختراق كل منظومة «محور المقاومة» لدرجة مثيرة للشفقة.. والاختراق ليس فقط بتجنيد الجواسيس.. هناك اختراقات أخطر وأهم بكثير.
سأنهي بمثال آخر: منذ أن تسللت العصابات الصهيونية إلى بلادنا وحتى قيام الكيان، كانت تعمل بتوصية مفادها: «لا تمسوا شيئين: عرض النساء وكل ما يتعلق بالدين ورموزه، لأنهما كافيان لإيقاظ الشعب ودفعه لمواجهتنا وإفشال مخططاتنا».
ما فعله الغرب الاستعماري الإمبريالي الصهيوني أنه بنى مخططاته وخططه بناء على فهمه لعقلية الرجل الشرقي، وأولويات المجتمع. وهذا ما يتوجب علينا فهمه وإدراكه والاشتغال عليه بشجاعة ووعي قبل أن نفكر بمواجهة عدونا عسكرياً وبصواريخ تتعدد أسماؤها ومدياتها، ولا تمنحنا سوى فرحة مؤقتة وقصيرة ثم نبكي بعدها طويلاً.. وسلامة فهمكم.