الصحوة المتأخرة للمثقفين الإسرائيليين من أدباء وفنانين ومحاضري جامعات، ممن اكتشفوا فجأة وبعد زهاء السنتين على الحرب أنها "حرب عبثية تفتقر إلى أهداف سياسية، قتل فيها 15,600 طفل، وهي غير أخلاقية ويرتفع فوقها علم أسود"، كما جاء في العريضة التي وقع عليها 2500 من هؤلاء، بينهم دافيد غروسمان، يهوشوع سوبول، دوريت ربينيان وغيرهم، هذه الصحوة المتأخرة ليست فقط فاقدة لأي أثر داخل المجتمع الإسرائيلي المعسكر والمشبع بالعنصرية، بل تطرح سؤالًا حول صمت هؤلاء وتواطؤهم مع حرب الإبادة وجرائم الحرب التي ما انفك ينفذها الجيش الإسرائيلي في غزة منذ 20 شهرًا.

الباحث في علاقة الجيش الإسرائيلي والمجتمع يغيل ليفي، كتب في معرض نقاشه مع تصريح رئيس حزب الديمقراطيين، الجنرال احتياط يائير غولان، إن الأخير تجاهل عمدًا البعد المنظّم لماكنة الحرب الإسرائيلية، التي لا تقتل المدنيين والأطفال كهواية أو دون حاجة، بل هي تقتل بشكل منظّم ومن خلال ما تراه كحاجة، مشيرًا إلى أن الجزء الكبير من القتلى هم نتاج قصف سلاح الجو، الذي يعمل بشكل مخطّط وتحت رقابة قضائية، على غرار السياسة التي سمحت في بداية الحرب بقتل 20 مدنيًّا مقابل استهداف عنصر واحد من حماس، و100 مدني مقابل استهداف قائد، واعتبارهم "ضررًا جانبيًّا".

تجاهل غولان، كما يراه ليفي، لا ينبع فقط من سكوته على ذلك في بداية الحرب، ولا من اندماج شركائه في المركز–يسار في ماكنة القتل تلك، لكن أيضًا من أنه كنائب رئيس أركان سابق في الجيش، كان واحدًا ممن أقاموا تلك الماكنة التي خُصّصت للهجوم على مناطق مسكونة.
بيد أن المفارقة في تعبير "هواية"، برأي ليفي، هي اليد السهلة على الزناد في صفوف قوات اليابسة، التي تتشكّل أساسًا من مجموعات اليمين والمتدينين، "أصحاب الياقة الزرقاء"، الذين يحاول المعسكر الليبرالي إلقاء مسؤولية تفشّي الانحطاط الأخلاقي في الجيش عليهم فقط.

إلا أن ليفي وغولان معًا يخطئان الهدف أيضًا، عندما يحصران الموضوع في الجيش فقط، متجاهلين أن الحديث يدور عن مجتمع استيطاني عنصري بطبيعته وطابعه. ما فعلته الحرب الحالية هو أنها كشفت القناع عن وجهه الحقيقي، الذي يظهر بكل بشاعته، عندما يؤيد 47% منه قتل كل سكان غزة، على غرار ما فعل "بني إسرائيل" بقيادة يهوشوع في أريحا، بينما يؤيد 65% منهم الاعتقاد السائد بظهور نسخة معاصرة من "عماليق"، ويقول 93% منهم إن الفتوى الدينية التي أجازت محو ذكر "عماليق"، في حينه، تنطبق على "عماليق" المعاصر أيضًا.

الاستطلاع الذي أُجري بطلب من جامعة "بان ستيت" الأميركية، وشارك به 1005 مستطلع يشكّلون عينة ممثّلة للسكان اليهود في إسرائيل، أظهر أن 82% من اليهود في إسرائيل يؤيدون طرد سكان غزة بالقوة، و56% منهم يؤيدون طرد العرب مواطني إسرائيل بالقوة أيضًا، في حين تبلغ نسبة من يؤيدون طرد سكان غزة بالقوة بين اليهود العلمانيين 69%، ويرى 31% منهم إبادة سكان أريحا سابقة يجب على الجيش الإسرائيلي تبنّيها اليوم.

الوضع أشد وطأة بين أبناء الشريحة الواقعة تحت جيل 40 سنة، وهم من يشكّلون النسبة العظمى من الذين يؤدون الخدمة العسكرية في غزة، حيث يؤيد 66% منهم طرد العرب مواطني إسرائيل بالقوة، بينما يؤيد 58% منهم إبادة سكان غزة على غرار ما فعل يهوشوع في أريحا.

كاتبا المقال الذي كشف عن هذه النتائج، هما شاي حزكاني من جامعة ميريلاند وتمير شوروك من جامعة "بان ستيت" الأميركيتين، يحيدان الفرضية التي تعزو التطرّف الذي حدث في الشارع الإسرائيلي إلى الهزّة والخوف الذي أحدثته أحداث السابع من أكتوبر فقط، ويضعان أيديهما على السبب الجوهري الكامن في "الصهيونية"، التي هي، عدا عن كونها حركة وطنية، كما يقولان، حركة مهاجرين–مستوطنين يرغبون في إبعاد السكان الأصليين.

ويضيف الباحثان أنه لطالما جوبهت مجتمعات المهاجرين–المستوطنين بمقاومة عنيفة وقاسية من قبل مجموعات السكان الأصليين، التي تتصدى لاقتلاعها من أرضها، بينما يقود الطموح إلى الأمن المطلق إلى خطط فعلية لإزالة السكان المقاومين. ولذلك، فإن في كل مشروع استيطاني طاقة كامنة لتطهير عرقي وإبادة جماعية، على غرار ما وقع في شمال أميركا في القرن الـ17–19، وفي ناميبيا في القرن العشرين.

ويختمان بالقول إن "الحردليم" يقدّمون للإسرائيليين هذا الحل لمحو السكان الفلسطينيين الأصليين بغطاء ديني، حيث يعرضون خطابًا وخطة عمل للمتدينين والعلمانيين، الذين فتّشوا عن حل لا يضطرهم إلى التخلي عن الامتيازات التي يوفرها لهم نظام التفوّق اليهودي.
ويشير الباحثان، في السياق، إلى أن استعمال الخطاب التوراتي أيضًا ليس بجديد، فقد حمل المستوطنون في أميركا وإيرلندا والأماكن الأخرى التوراة، وساووا بين السكان الأصليين الذين قاوموهم وبين العماليق والكنعانيين، ونفّذوا تطهيرًا عرقيًّا وإبادة جماعية وفقًا لذلك.