سياق لا يشبه غيره.

في ظل التصعيد المستمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتحديدًا في قطاع غزة، والضفة الغربية بما فيها القدس، تفرض علينا في المرحلة القادمة ضرورة إعادة النظر في طبيعة وجدوى المشاريع الإغاثية. فليست فلسطين مجرد ساحة كوارث طبيعية، بل ساحة استعمار طويل الأمد، يتم فيها تقويض يومي للبنى التحتية، وتهميش ممنهج للفئات الضعيفة، وحرمان جماعي من الموارد والحقوق. 

وفي ظل هذا السياق المركب، تبرز المشاريع الإغاثية كعنصر أساسي ليس فقط للاستجابة الإنسانية وللاحتياجات الطارئة، بل أيضًا كأداة استراتيجية لتعزيز الصمود المجتمعي وإرساء أسس إعادة البناء والتنمية، وشكل من أشكال إعادة التوزيع العادل للفرص.

"تبرز المشاريع الإغاثية كرافعة ضرورية ليس فقط لتلبية الاحتياجات الأساسية، بل أيضًا كبنية تحتية موازية تساهم في تعزيز الصمود المجتمعي وتهيئة الأرضية لإعادة البناء والتنمية".

الواقع الإنساني المتدهور "مؤشرات مقلقة".

تشير التقارير الأممية والمحلية إلى تصاعد غير مسبوق في نسب الفقر، والبطالة، وانعدام الأمن الغذائي، خاصة في قطاع غزة والضفة الغربية (بما فيها القدس الشرقية) وتشمل أبرز الملامح:
ارتفاع غير مسبوق في معدلات الفقر (أكثر من 70%) والبطالة (تتجاوز 75% بين الشباب في غزة). 
انعدام الأمن الغذائي يطال أكثر من 65% من الأسر الفلسطينية.

أكثر من 80% من سكان غزة يعتمدون على المساعدات الإغاثية الإنسانية كمصدر أساسي للعيش.
ارتفاع معدلات النزوح الداخلي وتدمير البنية التحتية جراء العدوان المتكرر.

تدمير واسع للبنية التحتية (شبكات الكهرباء والمياه، المدارس، والمستشفيات) وتدهور أنظمة الصحة والتعليم والمياه والصرف الصحي، مما يضع السكان في مواجهة دائمة مع الأزمات الصحية والبيئية.

أثر خاص على الفئات المهمشة، النساء - خاصة المعيلات لأسر، حيث يعانين من فجوات أكبر في فرص الدعم والتمكين، وذوو الإعاقة يواجهون صعوبات مضاعفة في الوصول إلى الخدمات.

من الإغاثة الطارئة إلى التمكين التدريجي.

في ظل هذه الظروف لم تعد المشاريع الإغاثية في فلسطين تقتصر على توزيع المساعدات، بل أصبحت ضرورة سياسية واجتماعية تحاكي الواقع المركب وتستجيب له ضمن مستويات متدرجة، وهنا لا بد من إعادة تعريف الدور الذي تلعبه المشاريع الإغاثية، بحيث تتدرج من الاستجابة الطارئة إلى التعافي المبكر ومن ثم إلى التنمية المجتمعية المستدامة. 

"من الضروري" إعادة هيكلة مفهوم "المشروع الإغاثي"، بتطويرها من مجرد برامج طوارئ إلى أدوات استراتيجية"

تبدأ المشاريع الإغاثية كاستجابة ل مرحلة الإغاثة الطارئة، والتي تشمل توزيع السلال الغذائية والمواد غير الغذائية، تقديم خدمات الطوارئ الصحية والنفسية (دعم العيادات، المستشفيات، الادوية، توفير المأوى للنازحين). لتنتقل الى مرحلة التعافي المبكر، بإعادة ترميم البنية التحتية الأساسية (المنازل المدمر جزئيا، المدارس، المستشفيات، كهرباء، الصرف الصحي، شبكات المياه)، ودعم المشاريع الصغيرة للأسر المتضررة، وتوفير فرص عمل مؤقتة ضمن برامج "المال مقابل العمل". لتصل الى مرحلة الإغاثة التنموية، بإطلاق برامج تدريب مهني، وريادي للفئات التي فقدت مصادر دخلها، وتمكين الفئات الهشة (النساء، ذوي الإعاقة، الشباب)، ودعم الاقتصاد - الانتاج  المحلي (الزراعة، الصناعات المنزلية، الحرف اليدوية) بالشراء من المنتجين المحليين، وتعزيز شبكات الحماية الاجتماعية المجتمعية، وبناء نظم حماية اجتماعية مجتمعية مرنة وقادرة على التكيف مع الأزمات لتقليل الاعتمادية على المساعدات. 

الأولويات الإستراتيجية ضمن تعقيدات المرحلة القادمة.

ضمن تعقيدات المرحلة القادمة يجب العمل ضمن نهج شامل قائم على العدالة الاجتماعية، بحيث ترتكز المشاريع الإغاثية على مبادئ العدالة في التوزيع الجغرافي والنوعي وتتضمن ضرورة إيصال المساعدات إلى المناطق المهمشة والمتضررة. وتعزيز الشراكة مع المجتمع المحلي بإشراكه مع فئات النساء والشباب في تحديد الأولويات وتصميم التدخلات، وبدعم الجمعيات والمؤسسات القاعدية في تنفيذ المشاريع وليس فقط المنظمات الدولية، والاعتماد على الموردين والكوادر المحلية لتعزيز الاقتصاد الداخلي. وتبني مقاربات شاملة وحساسة للسياق السياسي والنوعي، خاصة في قضايا الحماية والتمييز القائم على النوع الاجتماعي. 

"تكامل العمل الإغاثي مع الجهود الوطنية لضمان عدم خلق أنظمة موازية، بل داعمة للسياسات الوطنية".
 
التحديات الماثلة أمام العمل الإغاثي.

رغم الحاجة الملحة، إلا أن المشاريع الإغاثية تواجه عدة تحديات من ضمنها تقلص وتراجع في التمويل الدولي نتيجة لضغوط سياسية وقيود مفروضة من بعض الدول المانحة وتقلب في الأولويات العالمية. واستمرار حاله تقييد الحركة والوصول الى المناطق المستهدفة بالإغاثة، حيث لا تزال إسرائيل تمنع دخول العديد من المواد الأساسية، وتفرض قيودًا مشددة على دخول الطواقم من المؤسسات الإنسانية والمعدات الضرورية إلى غزة. وأحيانا غياب التنسيق بين الفاعلين المحليين "الوطني" والدوليين، مما يفرز تعدد المبادرات الإغاثية دون تنسيق فعّال يؤدي إلى تكرار أو تجاهل مناطق معينة، بالإضافة لعدم وجود اليات موحدة لتحديد الأولويات وتقسيم الأدوار. وفي الحالة الفلسطينية ضمن إطار الاعتمادية لا التمكين يكمن هنالك خوف من أن تُنتج المساعدات حالة من الاعتمادية لدى الناس، إذا لم تُربط بفرص للتمكين الذاتي. 

" الاعتمادية بدل التمكين، وخطر تحول المساعدات إلى نظام رعاية دائم - مما يضعف من فرص الاستقلال الاقتصادي"

الإغاثة في فلسطين من نموذج اغاثي إنساني فقط، الى فعل مقاوم.

تتطلب المرحلة القادمة تطوير نموذج فلسطيني مستقل للإغاثة، مع إدراك صعوبة فصل العمل الإغاثي في فلسطين عن السياق السياسي والاستعماري. ومع دخول فلسطين مرحلة حرجة، يجب أن تقوم المشاريع الإغاثية على مبادئ للصمود والتحرر، وليس مجرد استجابات عاجلة "للنجاة". فالإغاثة في فلسطين لم تعد وسيلة للبقاء، وتأمين الحد الأدنى، بل هي فعل مقاوم، يعزز الصمود والبقاء على الأرض بكرامة.

وعليها ان تتبنى النهج التشاركي، بإشراك المجتمعات المتأثرة في كل المراحل من تصميم الى تنفيذ المشاريع فالمقاربة التشاركية تعطي صوتًا للمتضررين وتستند إلى احتياجاتهم الواقعية. وان تستند على الرؤية السيادية، بحيث تبنى الاستجابات المحلية بشكل مستقل عن أجندات المانحين الخاجية.
وان تهدف الى العمل على التمكين بدل التسكين، حيث تحويل المساعدات إلى أدوات لبناء القدرات المجتمعية، خصوصًا بين النساء والشباب.

"رؤية سيادية للإغاثة لا تُبنى وفق أجندة الممول وحده، بل من احتياجات الفلسطينيين وأولوياتهم النضالية والاقتصادية"

الإغاثة فعل مقاومة وصمود في السياق الفلسطيني.

في سياق استعمار طويل الأمد، وتصاعد التحديات في المرحلة المقبلة، فإن إعادة بناء فلسطين لا تبدأ من الإعمار المادي فقط، وكون المشاريع الإغاثية مجرد تدخلات طارئة، ولا يمكن اعتبار الإغاثة مجرد عمل إنساني محايد، بل هي أداة سياسية واجتماعية لحماية الوجود الفلسطيني، وضرورة إنسانية، وأداة بقاء تعزز قدرته على الاستمرار والتطور والصمود والمقاومة. 

المراجع تقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) في فلسطين.
الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024
وثائق وكالة الأونروا وبرامج الأمم المتحدة الإغاثية.
تحليلات ومذكرات سياسات لمنظمات المجتمع المدني الفلسطيني.