على عكس ما يُشاع لا يمكن اعتبار القانون مجرد أداة تنظيمية محايدة، بل هو انعكاس ونتاج مباشر للواقع الاجتماعي والسياسي، يعكس موازين القوى السائدة بين الأفراد ويُعيد إنتاجها، ومنها علاقات النوع الاجتماعي، من هذا المنطلق يصبح من الضروري قراءة القوانين من منظور جندري لتسليط الضوء على الفجوات في العدالة والمساواة، ولكشف وفحص مدى تحقيقها لهم، ومدى تأثيرها خاصة فيما يتعلق بتجارب النساء والفئات المهمشة.

هذه القراءة تهدف إلى كشف التحيزات الذكورية في النصوص أو تطبيقها، وتربط القانون بسياقه الاجتماعي والثقافي، في محاولة لتحويله إلى أداة تحقق العدالة لا أداة تُكرّس التمييز.

بين النسوي والجندري: التباس المفاهيم.

غالبًا ما يحدث خلط بين المنظورين النسوي والجندري، وهو خلط يؤدي إلى إضعاف أثر المطالب النسوية وطمس الفروق بين المعاني والمطالب ، فالنسوية تركز على تجربة النساء التاريخية مع التمييز والحاجة إلى التمكين، بينما يوسّع المنظور الجندري دائرة التحليل ليشمل كل علاقات السلطة بين الهويات الجندرية المختلفة.

ومع أن الخلط بين المصطلحين قد يبدو فرصة في بعض الأحيان لتوسيع المطالبة بالعدالة إلا أنه يتطلب وعيًا شديدًا بالفروق الدقيقة لتجنب الإلتباس في الخطاب وفقدان البوصلة، لكن حين يُفهم التمايز بينهما بوعي، يمكن بناء مقاربة تكاملية تستخدم النسوية لرصد التمييز الواقع على النساء، ويُوظف الجندر لفهم علاقات السلطة بشكل أشمل، مما ينتج خطابًا قانونيًا أكثر عدالة واستجابة للواقع.

الفجوة العميقة بين المنظومة القانونية السائدة والمطالب النسوية العادلة، فالقوانين بتكويناتها وتطبيقاتها، غالبًا ما يُبقي النساء على هامش الفعل والقرار، ويُكرِّس التمييز بحجج تستند إلى الدين، العرف، أو الخصوصية الثقافية. في المقابل، يأتي المنظور الجندري كمشروع تحولي يسعى إلى إعادة صياغة مفاهيم مثل العدالة والسلطة والحقوق من منطلق يعترف بتجارب النساء كجزء أساسي من الواقع القانوني.

مثال توضيحي على هذا الطرح يظهر في النقاش حول قانون العمل الفلسطيني، فعند مراجعة هذا القانون من منظور نسوي، نجد أنه لا يُنصف النساء العاملات في القطاع غير المنظم أو في أعمال الرعاية غير مدفوعة الأجر، وهي مسؤوليات تتحملها النساء غالبًا دون حماية قانونية أو اجتماعية. بينما يتيح المنظور الجندري فهمًا أوسع لدور الأبوّة، مما يدفع نحو المطالبة بإدراج إجازة أبوة إلى جانب إجازة الأمومة وتقاسم أدوار الرعاية. 

القانون الفلسطيني: بين نصوص ذكورية ومطالب أكثر عدالة ومساواة.

المنظورين النسوي والجندري لا يطرحان دعوة للعدالة وللمساواة الشكلية، بل هما قراءة وممارسة تحليلية نقدية تسعى نحو تجاوز النص إلى التطبيق، حيث تسعى لفهم أثر القوانين على النساء، وكشف التحيزات الذكورية سواء في النصوص أو الممارسات بحيث يتم ربط القانون بالسياق السياسي والاجتماعي والثقافي، وتسليط الضوء على غياب العدالة النوعية رغم وجود بعض النصوص التي تنادي بالمساواة.

"التصادم يعزى، بوصف القانون أداة ضبط اجتماعي تأسست في إطار ذكوري، والمنظور الجندري كقوة تفكيك وبناء جديدة تطالب بإعادة صياغة السلطة، والعدالة، والحقوق"
مثال على التصادم، نجد الكثير من القوانين تُصاغ بلغة "محايدة" مثل "المواطن"، "العامل"، مما يوحي بشمولية ومساواة مزعومة، إلا أن هذا الحياد الظاهري يُخفي واقعًا قانونيًا غير متكافئ وتتجاهل الواقع غير المتساوي الذي تعيشه النساء، وكما تُستخدم مفاهيم مثل "قيم المجتمع" و"الخصوصية الثقافية"  لتبرير استمرار الوضع القائم، ورفض أي تعديل يمس التوازنات الذكورية في القانون، أو تأجيل التعديلات الجندرية، وأحيانا تُتهم الأجندة النسوية بأنها مستوردة رغم استنادها إلى واقع النساء. 

العدالة الشكلية مقابل العدالة الفعلية: كيف ترى القوانين النساء؟

رغم أن الدستور الفلسطيني ينص في مادته التاسعة على مبدأ المساواة وعدم التمييز، إلا أن الواقع القانوني لا يُترجم هذه المبادئ. حيث لا توجد مواد صريحة حول المساواة بين الجنسين في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وإذا ما ذهبنا الى قوانين الأحوال الشخصية تُطبّق وفق مرجعيات دينية مختلفة، وتساهم في بعض بنودها لتكريس مفهوم التمييز ضد النساء في مسائل الزواج، الطلاق، الحضانة، الشهادة، والميراث. قانون العقوبات تساهل مع جرائم الشرف، وغياب تجريم صريح للتحرش، ولا يضمن حماية فعالة للنساء من العنف القائم على النوع الاجتماعي. وإذا ما نظرنا الى قانون العمل ينص في بنوده على بعض الحقوق، لكنه لا يضمن إجازة الأبوة، ولا يُلزم أصحاب العمل بتوفير بيئة آمنة خالية من العنف والتحرش، ولا يعالج التمييز في الأجور أو الترقيات. وهذا يكشف عن بنية قانونية ما زالت متجذرة في أنماط ثقافية واجتماعية تقليدية، وتُمأسس التمييز وتُكرّس التفاوت بين الجنسين.
"التصادم بين القانون كأداة تنظيم اجتماعي، وبين المنظور الجندري كمشروع تحرري، لا يجب أن يُفهم كصراع عابر، بل كمؤشر على الحاجة الملحة لإعادة تعريف العدالة من منطلق شامل وإنساني".

لماذا تستمر عملية مقاومة التغيير؟

تظهر مقاومة إدماج البعد الجندري وتغيير المنظومة القانونية، باستمرار تركيبة السلطة نفسها التي تُهيمن عليها النخب الذكورية وغياب الإرادة السياسية الحقيقية، بالإضافة إلى التمثيل الرمزي للنساء في مواقع صنع القرار، وكثيرًا ما يتم التذرع  بالأعراف والعادات والتقاليد لتبرير هذا الجمود القانوني، بل وتُتهم المطالب النسوية بأنها أجندة مستوردة، رغم أنها تستند إلى واقع النساء الملموس.

نحو قوانين أكثر عدالة: معالم التحول

أمام هذا الواقع، يصبح من الضروري الدفع نحو منظومة قانونية أكثر عدالة من خلال خطوات حقيقية، تبدأ بتحويل اللغه القانونية التقليدية وإعادة بناءها لتكون أكثر شمولا وعدالة، ولتضم مفاهيم مثل العدالة الجندرية والرعاية المشتركة والتمكين القانوني، وتأنيث الخطاب القانوني بلغة تعبر وتعكس وواقع و تجارب النساء، مرورًا بمراجعة القوانين من منظور جندري فعلي وفحص الأثر الفعلي وليس الشكلي، وصولاً إلى تمثيل النساء كمشاركات فاعلات حقيقيات في صناعة القرار، لا مجرد أرقام، 

والاخذ بعين الاعتبارإشراك الفئات المهمشة: لتصبح القوانين نابعة من تجارب واقعية.
من التصادم إلى إعادة التأسيس.

أخيرا،، لا يكفي تعديل النصوص القانونية بشكل سطحي، بل لا بد من إعادة تأسيس النظام القانوني على أسس جديدة تنطلق من كرامة الإنسان والعدالة الفعلية، فالقانون، حين يُعاد بناؤه ليُراعي التنوع والاختلاف، يمكن أن يتحول إلى أداة تحرر حقيقية لا أداة قيد لكل أفراد المجتمع، لا سيما النساء والفئات المهمشة. وهذا التصادم بين القانون كأداة تنظيم اجتماعي، وبين المنظور الجندري كمشروع تحرري، لا يجب أن يُفهم كصراع عابر، بل كمؤشر على الحاجة الملحة لإعادة تعريف العدالة من منطلق شامل وإنساني.